هكذا هو حال الساعات تقطع أوصال الأيام والليالي وتنقلنا من زمن إلى زمن دون اختيار منا، بل ولا حتى قدرة على مقاومة هذا الزحف الذي يأكل في أعمارانا ويسلبنا اللحظة تلو اللحظة. إنها الدنيا .. نحن .. والأحداث .. يا لها من معادلة دقيقة..
فلندقق قليلاً في قول الله سبحانه وتعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)..
نرى أن الفتن (وهي الأحداث) تَرِدُ على الإنسان وكأنه ثابت والأحداث هي المتحرك، ولكن لهذه الصورة (الدنيوية) يوضح فيها الله تعالى وظيفة الإنسان (الثابت بالنسبة للأحداث) في غير مكان من كتابه الكريم ف سلسلة مترابطة من الآيات الكريمة التي تبين خط النجاة بمجموعة من الفضائل والسلوكيات المطلوبة من المولى عز وجل للإنسان المتعرض لألوان وألوان من الحوادث والأحداث التي ربما كانت شديدة في بعضها.
بتدبر آيات الذكر الحكيم يتبين لنا أن على رأس تلك الفضائل ومخها وعقلها تأتي فضيلة التقوى التي وظف الله جل شأنه لها شهر هو من أعظم الشهور وأجلها، ألا وهو شهر رمضان الكريم، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وهذا تصريح محكم في أن الغرض الأسمى من شهر الصيام هو تحصيل فضيلة التقوى، بل وأكثر من ذلك أنه تبارك ذكره جعل في هذا الشهر ليلة تعادلُ العبادةُ فيها عبادةَ عشرات من السنين حيث قال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
من مجموع هذه الإشارات الإلهية الدقيقة يتضح لنا أن الطريق الأوحد لتجاوز الفتن (الحوادث) والاستسلام الإيماني لحركة الزمان في الإنسان هو طريق التقوى، وهذا طريق يحتاج إلى مفاتيح، والمفاتيح تحتاج إلى فهم واستيعاب، ومنها مفتاح شهر رمضان الكريم الذي قبض عليه الموفقون وذهب من بين أيادي أولئك الذي لم يفهموه ولم يستوعبوه.
إننا في مثل هذه الساعات التي أكتب فيها مقالتي الأسبوعية نراقب بحسرة وعصرة قلب كيف أن لحظات هذا الشهر الفضيل تتجاوزنا دون قدرة منا على إيقافها، إنها تمر بهدوء مدفوعة بشوال العيد الذي منه يبدأ الامتحان الحقيقي بتوافد الأحداث التي تتعامل مع تقوانا تعامل النار والدعك مع الذهب الخام، فكما أنه صاقل له فإن الحوادث صاقلة للتقوى التي هي طريق النجاة، وقد قال المولى جل شأنه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، وأي صبر لا يقبله الله سبحانه إلى إذا كان بدفع وبعث من تقوى حقيقية تستغرق الإنسان في فكره وسلوكه، وهذا واضح من قوله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
أيام –أيها الأحبة- ويغادرنا شهر الخير والرحمة والبركة، فمن استثمر وجوده دخل امتحان ما بعده بقلب مطمئن وسكينة نفس، أما من كانت لياليه عنده كسائر ليالي السنة فإن التفت إلى ما ضيع عليه أن يسارع فيتعلق بما تبقى من أيام هذا الشهر العظيم، وإن لم يلتفت الآن والتفت بعد انقضاء الشهر فعليه أن يضاعف الجهد ولا يسمح للحظات هذه الدنيا أن تمر عليه دون أن يستثمرها في كل ما يقربه من التوبة الصادقة والأوبة المرجوة لنيل رضا الله سبحانه وتعالى.
نودع هذا الشهر الكريم وكلنا حسرة على فراقه ورجاء من الله تبارك ذكره أن يتقبل منا قليل ما قدمنا وان يتجاوز عن قبيح أعمالنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
السيد محمد علي العلوي
27 شهر رمضان- 1430هـ
17 سبتمبر 2009