خطر المسؤولية.. القرار في موارد تزاحم المِلاكات

بواسطة Admin
0 تعليق

  • مُقدَّمةٌ تأصيليةٌ عامَّة:

يذهبُ النظرُ القاصِرُ إلى موضوعية السيرة التكوينية لمجتمع الإنسان في استنباط مسائل العلوم الإنسانية والعقلية، بل لا يُمكِن القبول بمسألةٍ تُخالِفها، ولذلك يُقال دائمًا ومُكرَّرًا بأنَّ العلوم الإنسانية والعقلية مأخوذة من نفس السيرة التي فُطِر عليها المجتمع الإنساني.

في تدوين هذا النوع من العلوم تُجرَّد المسائِل عن أبعادها الأدبية، ويُحافظ عليها في حدود التقعيد الكُلِّي العام، وهو ما تقتضيه الغاية من التدوين.

شابت هذا الأمر شائِبةٌ غير جيدة، وهي تمسُّك أهل الاختصاص بالمسألة المدونة دون الالتفات إلى أصلها الأدبي الإنساني نفسيًا ومجتمعًا ومجتمعيًا، ما أضَرَّ بسلامة الروابط المعرفية بين عامَّة الناس والعلم.

من أمثلة ذلك ما نحن بصدده في هذه السطور..

يدرُسُ طلبة العلم الأكارم التزاحم بين المِلاكات في مقام الامتثال؛ لينتهوا في مبحث الترتب إلى تصحيح أحد الفردين بارتكابه؛ لكون ارتكابه مُحقِّقًا لعدم القدرة على الثاني ضرورة (سوف نوضح هذا الأمر لاحقًا إن شاء الله تعالى).

في الواقع، هذا من صميم عمل طالب العلم، إلَّا أنَّ الالتفات إلى موارد التزاحم في الحياة العامَّة للإنسان فردًا ومجتمعًا لا يقل أهمية عن اتقان المسألة من جهة كونها من مسائل أصول الفقه.

لذا، فإنَّ ما تحسُنُ الدعوةُ إليه، محاولة الانطلاق بالمسائل العلمية الأصولية والمنطقية والرجالية والحديثية، وما نحوها، في أبعادها الاجتماعية الأصيلة لتثقيف المجتمع وبناء وعيه على أسسها، مع الاحتفاظ بأبعادها التخصصية بين أهل التخصُّص.

  • مقولةُ العُرف:

يقع البعض في إشكال عدم التفريق بين أقسام العرف من جهة، وبينه وبين التقاليد والعادات من جهة أخرى، ما استدعى التوضيحُ بإيجاز؛ لدخالته في موارد التزاحم، وغيرها.

ينقسم العُرف من حيث الثبات والتغير إلى قسمين رئيسيين، وتسميتهما تبرعًا، لا اصطلاحًا:

العرف التكويني: وهو ما يُسمَّى في الاصطلاح ببناء العقلاء، ويكون معلوم المنشأ ولا يتغير، ولذلك فإنَّ اشتراطَ عَدَمِ الردع من المعصوم (عليه السلام) إنَّما هو لإحراز سلامة الصُغرى، وإلَّا فبناء العقلاء ثابت لا يتغير، خُلِق مع الإنسان مُنظِّمًا لتفكيره وحياته.

العرف الظرفي: وهو ما يُعلمُ منشأه، ولكنَّه يخضع لظروف خاصَّة بالمرحلة، كاعتبار الأمر الفلاني زينة فيحرم على المرأة أمام الأجنبي، ونفس هذا الأمر قد يتغير بتغير الظروف الثقافية ولا يعود زينةً، فلا يحرم حينها على المرأة أمام الأجنبي.

ومن حيث الاختصاص فهو واحدٌ، يصح تسميته بعرف أهل الاختصاص، كسؤال أهل البحر إن كان هذا النوع من السمك ذا فلس أو لا..

وهناك التقاليد، وهي عميقة في المجتمعات، وصعبة التغير، إلَّا أنَّها غير معلومة المنشأ. وآخرها العادات، وهي سريعة التغير وليس بالضرورة أن تكون معروفة المنشأ

  • تنبيه:

لا يصعب على من أراد تبرير كلماته وأفعاله تلبيسًا على الآخرين وانتصارًا لما هو عليه، حتَّى لو قال في تعريفه للإنسان بأنَّه حجرٌ ناطق!!

فيقول: إنَّما قلتُ ذلك لجهة الاشتراك الجنسي بين نوع الإنسان وجنسه البعيد، وأمَّا قولي: ناطق، فأقصد به الناطق بالقوة، وبالتالي صحَّ أن يُقال عن الإنسان الحي الذي لا يستخدم عقله: حجر ناطق!

هذا كلام لا يمكن له تجاوز حدود الهُرَاء الذي قد يكون من المغالطة تارة والمشاغبة تارة أخرى، والجهل المهترئ تارة ثالثة، وإنَّما ذكرتُه مثالًا لأُبين مدى إمكان الدوران في مهاوي التبريرات والتلبيس على النفس والغير، وكل ذلك للعجز عن التجرُّد عند التشخيص للوقوف على المِلاك الأهم، وهذا ما ينبغي التنبُّه إليه جيِّدًا.

  • مدخلٌ:

لا يُمكِنُ لمشغولٍ أن يُشغل، ولا يمكن لانشغال أن يتحقَّق فعلًا ما لم يتعيَّن بطرد كلِّ ما سواه، فيكون الشغل الفعلي هو المراد والمقصود لمن انشغل به، ويَفْتَرِضُ العُقلاءُ أن يكون ذلك كاشفًا عن كون المُختار أهمَّ من غيره عند اختياره والاشتغال به، ولذلك أضاف السيد محمَّد باقر الصدر (قُدِّسَ سرُّه)، وربَّما غيرُه من الأعلام، قَيدَ “الأهمِّ” إلى قَيدِ “القُدْرَةِ” الذي قرَّره الميرزا النائيني (قُدِّس سرُّه) عند الانصراف إلى أحد المُتَزَاحِمَين.

توضيح: عندما يُكلِّف اللهُ تعالى العبد بالصلاة، فهنالك أمران مقطوعٌ بهما: أوَّلُهما القطع بوجود المصلحة؛ وهو قطعٌ لا يداخله شكٌّ على الإطلاق؛ يرجع في أصله إلى أنَّ الحكيم لا يُكلِّف إلَّا بما فيه المصلحة، ولا ينهى إلَّا عن ما فيه مفسدة. أمَّا الثاني فهو القطع بأن يكون موضوع التكليف مقدورًا للمكلَّف؛ وهو قطع لا يداخله شكٌّ على الإطلاق؛ يرجع إلى أنَّ الحكيم لا يُكلِّفُ بغير المقدور.

ثُمَّ أنَّ العبدَ في مقام الامتثال يبادر إلى وضع التكليف عن عهدته بتحقيق موضوعه خارجًا، دون تَرديد بينه وبين غيره؛ إذ أنَّ التكليف الشرعي المُلزِم أهمُّ من غيره مطلقًا.

إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ الكلام يقعُ فيما لو زاحم حكمٌ شرعيٌّ حكمًا شرعيًا آخر يساويه في درجة الإلزام، كما في وجوب الصلاة فورًا عند تضيُّق الوقت مقارِنَةً لوجوب دفع الضرر المُعتبر عن النفس، وكما في وجوب إنقاذ النفس المحترمة المقارِن لارتكاب حرام مثل التصرف في ملك الغير أداةً كان أو أرضًا أو ما شابه.

اهتم الأعلام ببحث هذه المسألة منذ القِدم، وازداد اهتمامهم بعد إبراز الميرزا النائيني (قُدِّس سرُّه) لشرط القدرة؛ فأبدعوا في أصول الفقه بحث الترتب بناءً على أنَّ امتثال أحد التكليفين عند التزاحم يُنتج عدم القدرة على الثاني ضرورةً، فجاء القول بالتصحيح لسقوط التكليف بالآخر بعد انتفاء شرط القدرة.

بعد إبراز بعض الأكابر لقيد “الأهم” ازداد الاهتمام بهذه المسألة؛ لوضوح رجوع امتثال أحد الفردين إلى التشخيص الموضوعي، ما يضع العبد أمام مسؤولية تحصيل مبادئ الحِكمة والعقل الراجح، ولا يبعد أن تكون مسؤوليةً شرعيةً من باب كونها من مقدِّمات تحقيق الموضوعات المرضية خارجًا.

  • أعمِّيَةُ المسألة:

لعدم إمكان فرار العبد القادر من عهدة التكليف بغير الامتثال وتحقيق الموضوع خارجًا، بحث العلماء طُرُقَ حلِّ التزاحم بين الملزمات، أمَّا في غيرها فهناك فردُ الترك مطلقًا، وهو فردٌ ثالِثٌ زاد على امتثال هذا أو ذاك، وبوجوده ارتفع الإحْكَامُ المُحقِّقُ للتزاحم محل العناية العلمية، إلَّا أنَّه قد يُقال:

يصرفُ الفردُ الثالثُ عن العناية بالمسألة خارج حدود التكليفات الملزمة في حال كانت دائرة الأثر ضيقة شخصية، أمَّا عند اتِّساعها لتشمل مجتمعًا، فلا مفرَّ حينها من الفحص عن العناوين المُقتَرِنة التي قد تكون من محقِّقات التزاحم.

مثال:

على القول بكراهة لُبس الأسود شرعًا لما ورد في ذلك من نصوص، فعلى التسليم، نرى جريان العرف الواسع في الأقوام والشعوب، والعميق في الامتداد التاريخي، على أنَّ لُبس الأسود مظهرٌ من مظاهر الحزن، وهو عرفي ظرفي قد يكون مُسلَّمًا، بل رُبَّما أُنكِر على أحد من أهل المصيبة لُبس غير الأسود، خصوصًا من النساء.

نقف هنا بين الروايات الناهية عن لبس الأسود، وبين أخرى ذات دلالات تقابلها.

أمَّا الأولى، فمنها:

  • عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “يُكْرَهُ السَوادُ إلَّا في ثلاثَةٍ: الخفِّ والعِمَامَةِ والكسَاءِ”[1].
  • قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “لا تلبسوا السوادَ؛ فإنَّه لبَاسُ فِرعون”[2].
  • عن محمد بن سليمان، عن رجُلٍ، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلتُ له: “أُصَلِّى في قلنسُوَةٍ سوداء؟

قال (عليه السلام): لا تُصَلِّ فيها؛ فإنَّها لباسُ أهلِ النَارِ”[3].

وأمَّا الثانية، فمنها:

  • عن عمر بن علي بن الحسين، قال: “لمَّا قُتِلَ الحُسَينُ بن عليٍّ (عليه السلام) لَبسْنَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِم السَوَادَ والمسوح، وكُنَّ لا يشتكين من حَرٍّ ولا بَرْدٍ، وكان عليُّ بنُ الحُسَين (عليه السلام) يَعمَلُ لَهُنَّ الطَعَامَ للمَأتَمِ”[4].
  • فخر الدين الطريحي في المنتخب، وغيرُه في غيرِه، مُرسَلًا: “أنَّ يزيدَ (لعنه الله) استَدعَى بحرم رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله)، فقال لهُنَّ: أيُّمَا أحبُّ إليكُنَّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة، ولكم الجائزةُ السنية؟

قالوا: نُحِبُّ أوَّلًا أنَّ نَنوحَ على الحُسين (عليه السلام).

قال: افعلوا ما بدا لكم. ثُمَّ أُخليتْ لهُنَّ الحُجَرَ والبيوتَ في دمشق، فلم تَبق هاشميةٌ ولا قرشيةٌ إلَّا ولبست السوادَ على الحُسَين (عليه السلام)، ونَدَبُوه على ما نُقِلَ سبعةَ أيَّامٍ”[5].

إنَّه على القول بصحَّة الطائفتين من الروايات، فإنَّ المورد حينها من موارد التزاحم بين ارتكاب المكروه لتحقيق أمر أهم، وهو إظهار الحُزن على مصائب أهل بيت العِصمة (عليهم السلام) بفردٍ مكروه شرعًا، إلَّا أنَّه مُتسالم عليه عُرفًا، بل ولا يبعُد الإنكار على تركه، وهو لبس السواد.

تأتي أهمية هذا الجمع في عدم ارتفاع الكراهة من جهة، وعدم التهاون في لبس الأسود في غير هذه الموارد الخاصَّة. كما ومعه لا يثبت الاستحباب لنفس لبس السود في مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن بتوسط كونه مظهرًا عُرفيًا مُهِمًّا.

وثمَّة فائِدة أخرى تتمحض في أهمية مجاراة الأعراف العادية في مثل هذه الموارد من التزاحم، وهي فائدة خطيرة؛ قد تنتهي بالبعض إلى الانحراف والضلال إذا لم تجرَّد النفس عن شهواتها ومسبقاتها عند التشخيص، ومع التجرُّد تظهر الحِكمَة وقوَّة النفس في وزن الأمور.

هذا في حال التسليم بصحَّة ما ورد من أخبار في النهي عن لبس السود، وما ورد في لبس أهل البيت (عليهم السلام) له عند المصائب الخاصَّة، أمَّا على القول بعدم صحَّة الاعتماد على روايات النهي لجهات الضعف فيها مثل الإرسال والرفع، وكذا بالنسبة للمرويات التي تُبين لُبس أهل البيت (عليهم السلام) للسود في بعض المصائب الخاصَّة، فالبناء حينها على أنَّه “لا دليلَ يُعتدُّ به على كراهة لبس السواد حال الصلاة فضلاً عن الأحوال الأخرى”[6]، وقد يُقال بأولوية “ترك لُبسِه، خصوصًا في حال الصلاة؛ وذلك نظرًا لمرجوحيَّتِه بمقتضى الروايات المذكورة”[7].

في هذه الحالة الأخيرة، وبالوقوف على أهمية فهم التزاحم وأصول الترجيح، تتسع الصدور لاستيعاب الاختلاف بين الفقهاء.

ففي مسألة لُبس السواد يذهب السيد الحكيم (دام ظلُّه) إلى أنَّه “يُكْرَهُ لُبس السواد، غير العمامة والرداء، ولا سيما عند المصاب، إلَّا في مصاب سيد الشهداء ونحوه مما يرجع للمصيبة في الدين”[8].

فيما يبني الشيخ محمَّد أمين زين الدين (قُدِّس سرُّه) على أنَّه “لا يُمكِنُ أنْ يَكونَ هذا العنوان – لبسها لقصد الأسى لمصاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيت العصمـة (عليهم السلام) رافِعًا للحكم بالكراهة. نعم قد يُعْتَبَرُ مُخَفِّفًا لها”[9].

وأفاد الشيخ يوسف آل عصفور (قُدِّس سرُّه) بأنَّه: “لا يبعد استثناء لُبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان”[10].

قد يرتفع الإشكال عند غير من لم تثبت له الكراهة أصلًا بما أشرنا إليه من وقوع التزاحم بين عدم لبس السواد في المصائب الكبرى لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) والتقصير في امتثال الأمر بإظهار شعائِر الأحزان، فترجَّح مِلاك موافقة العرف الظرفي العام على مِلاك اجتناب لُبس السواد.

وهنا تظهر فائِدةٌ أخرى، وهي انتفاء المسوغ عند تغيُّر العُرف الظرفي العام حتَّى مع عدم الإنكار على لُبس السواد في الأحزان. فتأمَّل.

  • موارد التزاحم:

تشغلُ البالُ الكثير من الأمثلة، إلَّا أنَّ الإعراض عن ذكرها أولى؛ بعد وقوع المزاحمة بين ذكرها بغرض زيادة شدَّة البيان، وبين الضرر المُحتمل من ذلك عندما تعمل آثارها في العقلية العامَّة فتُذهلها عن أصل المطلب، فظهر للنظر القاصر رجحان مِلاك المحافظة على الأذهان متوجِّهة إلى ما نحن فيه على مِلاك ذكر الأمثلة الخاصَّة بغرض زيادة شدَّة البيان.

وكيف كان، فإنَّنا نعيش بين يدي كثبانٍ من العناوين التي ينبغي فهمها والتدقيق فيها للوقوف على المِلاكات الأولى، ومن ذلك موقف الأئمة (عليهم السلام) من الشيعة الذين خرجوا بالسيف على حكَّام الظلم والجور، فإنَّها ممَّا قد لا يكون موضوعًا للاستنباط فيما إذا ثبت كونها قد قُدِّمتْ لتوسط عناوين أخرى رجَّحت مِلاكَها. وهذا ما يحتاج إلى تأمُّلٍ ودِقَّةٍ وسعةِ صدرٍ.

ومنها سكوتُ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) على ما كان من البعض بالرغم من شدَّته وعظيم خطره؛ لمزاحتمه بما هو أشدُّ وأعظم خطرًا في حال تصدِّيه (صلَّى الله عليه وآله) لهم، ويبين ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) مُعلِّلًا وصية الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) له: “يا رسول الله، وذلك في سلامةٍ من دِيني؟ فقال (صلَّى الله عليه وآله): في سلامة من دينك”[11].

في قبال ذلك تشهير الإمام الرضا (عليه السلام) عندما قال في أبي الخطَّاب: “إنَّ أبا الخطَّابِ كَذَبَ على أبي عبد الله (عليه السلام).. لعَنَ اللهُ أبا الخطَّابِ، وكذلك أصحابَ أبي الخطَّابِ؛ يَدسُّونَ هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن؛ فإنَّا إنْ تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ القُرآن وموافقة السُنَّة. إنَّا عن الله وعن رسوله نُحَدِّثُ”[12].

نحتاج في الحياة العامَّة إلى وقفات مسؤولة جادَّة لمراجعة بعض السلوكيات التي قد تكون من أسباب مشاكل عجزنا عن تشخيص أسبابها، ومن ذلك مسألة الثواب والعقاب، وهي من المسائل التي يُحتجُّ على صحتها من الكتاب العزيز، وذلك أنَّ الله تعالى اعتمدها بوضوح!

قد لا يصح الاستدلال، فالمُثِيبُ والمُعاقِبُ هو الله تعالى الذي لا يكون فِعْلُهُ إلَّا مُحكَمًا غاية الإحكَام، ومن جهة أخرى فإنَّ العبد يعلم يقينًا بأنَّه لم يُظلم لا بعدم حصوله على الثواب من الله تعالى، ولا بمعاقبته منه جلَّ في علاه. أمَّا في عالم الدنيا، وفي التعاملات البشرية، فكم من فعل كان ثوابًا يزاحمه ظلمٌ شديد من جهة أخرى، فيكون عدم الثواب راجحًا؟!

وهذا ما نراه من عرض الكثير جدًّا من الآباء والأمَّهات لصور أبنائهم المتفوقين مع شهاداتهم؛ ما يُعرِّض غير المتوفقين إلى حرج وضيق نفس يتكرَّرُ معهم في كلِّ سنة عند إقامة حفلات التفوق وما نحوها!

يُقال: وما ذنب المتفوقين أن لا نجازيهم خيرًا على تفوقهم؟ ولماذا لا يكون الاحتفاء بهم مُحفِّزًا لغير المتفوقين أن يُغيِّروا من واقع حالهم؟

فأقول: الطرح بهذه الطريقة مخالف للموضوعية تمامًا، فغير المتفوق كان كذلك لمجموعة من الأسباب التي لا نحيط بها، والتي قد لا يكون له دخل فيها، وتعريضه لمواقف تفضيل غيره عليه يزيد من كسره ويعمق عُقدَهُ، وهذا لا يعني عدم إثابة من يستحق الثواب، ولكن ينبغي إيجاد الطريقة الموضوعية البنَّاءة التي من خلالها يتحقَّق التحفيز للطرفين، طرف المتفوقين وطرف غير المتفوقين، وهذا ممكن جدًّا، لو كان المقام مناسبًا لكتبتُ فيه.

ومن أمثلة ذلك إصرار أحد الزوجين أو كلاهما على التخاصم أو الطلاق لمشاكل بينهما ادَّعيا عدم القدرة على تحملها، وبالتالي فلا مجال لما هو أفضل من الخصام والهجران، أو الطلاق!

قد يُزاحَم مِلاك الهجران أو الطلاق بمِلاك الصبر وبلع الآلام وعدم إظهارها أصلًا؛ حفاظًا على الأولاد وعلى علاقة بين عائلتيهما، ولكن النظر في مثل هذه الموارد بموضوعية يعارضه، ولا يزاحمه، حبُّ النفس والبحث عن راحتها، وهو حبٌّ جامِحٌ عاصِفٌ يجعل من تغليب مِلاك الهجران او الطلاق مسألة حياة أو موت لأحد الطرفين أو لهما معًا!

يتحرَّك المُجتمع بعرَجٍ واضحٍ صريح؛ بسبب مثل هذه العقليات التي تُرجِّحُ مِلاك أمر دون عناية بباقي المِلاكات المُزاحِمَة، وقس على ذلك الكثير جدًّا من الأمثلة التي لا تقع بعيدًا عن الأذهان.. لا نحتاج إلى أكثر من أناة وطول بال..

  • التشخيص وتحديد الأهم والإلزام:

قد يفتح أستاذٌ درسًا أهليًا في مبادئ علم النفس؛ استشعارًا منه لأهمية وقوف عامَّة الناس على بعض قوانينه العامَّة التي تُؤهلهم من فهم أنفسهم وفهم بعضهم البعض بشكل أفضل، وعند إعلانه عن الدرس لم يتقدم للالتحاق غير قلَّة من الأهالي، وإذا به يُصدِرُ بيانًا يلوم فيه الناس ويعنِّفهم، متَّهِمًا إيَّاهم بقلَّة الفهم والوعي، وعدم تقديرهم لما يُقدَّم لهم بالمجان!

في الواقع هو لا يرى غير مِلاك الدرس، والحال أنَّ الآخرين من عامَّة الناس يحيطون بعناوين لها مِلاكات لا يحيط هو بها، وقد يكون مِلاكُ عدم الإفصاح عنها أرجح من مِلاك الإفصاح.

من هنا، فإنَّه لا يصحُّ لأحد إلزام غيره بما يتوصل هو إليه في مثل هذه الموضوعات ذات الخلفيات والمترتبات المُتشعبة.

نحن في مثل هذه القضايا لسنا ببعيد عن استنكار الكثير من الناس عدم حضور طلبة العلم صلوات الجماعة القائمة فعلًا، والحال أنَّ الأمر يرجع إلى بعض الاعتبارات التي قد توجِب عليهم عدم الحضور حفاظًا على ما هو أكثر أهمية؛ مثل التسبب في إهانة أو إضعاف الإمام الراتب إذا كان الآخر أفضل من جهات معتبرة في إمام الجماعة، وهذا أمر يقع فيه عامَّة الناس من حيثُ لا يعلمون. فتأمَّل.

لذا، فإنَّ مجاوزة النفس في الإلزام أمر لا تقبله السليقة السليمة، وهذا بالطبع لا يجري في الواضحات وما يُؤيده بناء العقلاء، كما وأنَّ عدم الاتفاق مع الملاك الراجحٍ لا يعني بالضرورة وجود مِلاك مُزاحم، بل قد يكون لتخاذل أو تكاسل أو غفلة أو جهل، غير أنَّ تشخيص مثل هذه الحالات ليس بالأمر الميسور، والأحرى التمسك بالحمل على محامل الخير وحسن الظن ما لم تكن الدعوة للنفس وما تختلط فيها من شهوات الأنا التي عادة ما تُبرَّر بترجيح مِلاكها، وهو مِلاك متوهم، إلَّا أنَّ ذلك، للأسف، ممَّا نعيشه في الواقع.

  • التقيَّة ومسألة التزاحم:

ربَّما صحَّ القول بخطورة مسألة التزاحم عن التعارض؛ فالتعارض، وإن ذهب الشيخ الآخوند محمَّد كاظم الخرساني (قُدِّس سرُّه) إلى أنَّه الأصل وإليه يرجع التزاحم، إلَّا أنَّ المشهور، كما يبدو، على جوهرية الفرق بينهما؛ فموضوع التعارض الدلالة، فيما موضوع التزاحم المِلاك.. نعم، ربَّما صحَّ القول بخطورة مسألة التزاحم عن التعارض؛ فالإنسان، الأعمُّ مِنَ الفَقيهِ وغَيرِهِ، في مَعْرَضِ الاختيار بين المتزاحمات دائِمًا، ما استدعى التنبُّه جيِّدًا إلى مآلات الاختيار دون تهاونٍ على الإطلاق، ومع الضرورة البالغة للتخلُّص، بل الفِرارُ، من دعوات النفس ومسبقاتها؛ لما فيها من مهالِك تتعدَّى حدود الآثار الشخصية إلى عموم من ينعكس عليهم الاختيار.

يظهر ذلك بوضوح في مبدأ التقية..

عن مُعَلَّى بنِ خُنَيس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): “يا مُعَلَّى، اكتُمْ أمرَنَا ولا تُذعْهُ؛ فإنَّه من كَتَمَ أمْرَنَا ولم يُذِعْهُ أعَزَّهُ اللهُ في الدُنيا، وجَعَلَ له نُورًا بين عينيه في الآخرة يقودُه إلى الجَنَّةِ.. يا مُعَلَّى، من أذَاعَ حَديثَنَا وأمْرَنَا، ولَمْ يَكتمها أذَلَّهُ اللهُ بِهِ في الدُنيَا، ونَزَعَ النُورَ مِنْ بين عَينَيهِ في الآخِرَةِ، وجَعَلَ له ظُلْمَةً تقوده إلى النار.. يا مُعَلَّى، إنَّ التَقيَّة دِينِي ودِينِ آبَائِي، ولا دِينَ لِمَن لا تَقيَّة لَهُ.. يا مُعَلَّى، إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يُعْبَدَ في السِرِّ كَمَا يُجِبُّ أنْ يُعبَدَ في العَلَانِيَةِ.. يا مُعَلَّى، إنَّ المُذيعَ لأمرِنا كالجَاحِدِ بِهِ”[13].

قد لا يقع خلافٌ بين العقلاء في أنَّ دعوة الحقِّ دعوةٌ للناس تستوعبهم لغاية إخراجهم من الظلمات إلى النور، وبذلك يكون الأصل هو الإذاعة، لا الكتمان، وربَّما كان هذا هو الموافق لمقتضى الاستخلاف الإلهي في الأرض، المفهوم من قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[14]، إلَّا أنَّ مزاحمة التبليغ بضرورة حفظ النفس والمال والعِرض عن الأضرار المُحتملة والمعتبرة شرعًا، ومنها الابتعاد بها عن الإذلال والمهانة وما نحو ذلك، أوجب التقية في المواطن التي تكون فيها السطوة للظالم، وهو خيار عدم الإذاعة. وهكذا فإنَّ مبدأ التقيَّة يقوم على غلبة التزاحم في الواقع العملي، ولا يخفى كونها من المبادئ الإنسانية الأصيلة التي فُطِر الإنسان وجُبِلَ عليها، ولذلك نرى أكثر من يمارسها هم أشدُّ الناس معارضةً لها، وإن كانوا يفعلونها بعناوين أخرى ترتاح لها نفوسهم!

ننتهي إلى محصلة مهمَّة غاية الأهمية، وهي ضرورة التريث في الترجيحات واتِّخاذ القرارات، والحذر من الإقدام دون ضبط المقدمات العلمية وما تراكمه التجارب والخبرات من ملكات ضرورية في فهم الواقع وقراءة مفرداته.

ولنتدبرها جيِّدًا..

في كثير من الأحيان نحتاج إلى إنكار الذات لمصلحة مِلاك أهم يتعلَّق بالغير.

نسأل الله تعالى العفو والعافية، وأن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، إنَّه سميع مجيب.

والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطاهرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

25 رجب 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………………….

[1] – تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 2 – ص 213

[2] – من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 1 – ص 251

[3] – علل الشرائع – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 346

[4] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 2 – ص 420

[5] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 3 – ص 327

[6] – جواب لسماحة الشيخ محمَّد صنقور البحراني (دام عزُّه): http://www.alhodacenter.net/upgrade/index.php?page=details&id=1990

[7] – المصدر السابق

[8] – الفتاوى/ أسئلة وأجوبة س 205

[9] – بين الفقيه والمكلف/ م 49

[10] – الحدائق الناضرة – الشيخ يوسف آل عصفور البحراني- ج4 ص160

[11] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 155

[12] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 2 – ص 250

[13] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 255

[14] – الآية 30 من سورة البقرة

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.