يحصلُ أنْ تتفاجأ بفعلٍ ما من أحد الأفراد، أو بحادثةٍ عرضية أو ظاهرةٍ اجتماعية جديدة غير متوقعة، ذلك أن بوادر الفعل أو الحادثة أو الظاهرة كانت غير ظاهرةٍ لك أو أنّ أجزاءها كانت مفكّكة، أو اجتمع بعضها دون بعضها الآخر.
على مستوى الفعل الفردي قد يكون فعلًا عابرْا على نحو الحال كما يعبِّرون في علم الأخلاق، وقد يكون ملكةً خافية لكنها ظهرت عندما أصبح الظرف ملائمًا لظهورها، كأن يغضبَ إنسانٌ اعتدنا منه طيب الكلام في حال هدوئه، وإذا به يسبّ ويشتم ويصرخ ويزمجر. لكنّ الظهورَ لا يقتصر على هذا فإنّ الحاذقَ ذا الحدس قد يتمكن من استكشاف بعض مكنوناتِ الآخرين من قسمات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وغيرها من العلامات، وقد ورد هذا المضمون عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في قوله: (مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ).
أمّا على مستوى الحوادث الجماعية والظواهر الاجتماعية فلا يختلف الأمر كثيرا، حيثُ أننا قد نستغرب وقوعَ حدثٍ ما أو بروزَ ظاهرةِ جديدةٍ لم نكن نتوقعها، لكنها في الواقع كانت مكنونةً فنجدها تطفو مع توافر الظّروف الملائمة والبيئة الحاضنة لها، ومع اكتمال أجزائها، وهنا أيضا أقول: لا تلتفت الغالبية العظمى من الناس لهذه الظّواهر إلا بعد أن تعاينها متحقِّقةً في الخارج بوضوح، ولعل ذلك ممّا يشكِّل صدمةً كبيرةً لفئاتٍ ليست بالقليلة منهم، بينما نجدُ الحاذقَ العالم بالمجتمعات وخصوصياتها، والعارفَ بما قد يترتّب على بعض الأفعال والأجزاء المتفرقة عند اجتماعها، لا يتعجّب أبدا، بل نجده ينبّه ويشير للظاهرة ويحذّر منها قبل وقوعها بأشهرٍ وربّما سنوات.
بالنّظر لما تقدم نستطيع أن نفهمَ الكثير من الحالات والظواهر التاريخية والمعاصرة، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، بل ونتمكن من استشرافِ المستقبل والتحضير له وتوجيهه، فكون بعض الأمور مكنونةً مكتومةً لا يعني عدم وجودها، فهي لا تنتظر إلا اكتمال أجزائها وتوفّر البيئة الحاضنة لها..
مرّة أخرى يجرّنا الكلام للحديث عن أهمية العلوم الإنسانية بشتى أقسامها، خصوصًا لمن يتقلّدون دور الريادة والقيادة بالمجتمعات، فالحالاتُ الفردية نحتاج فيها لعلم النفس مثلا، والظواهرُ الاجتماعية نحتاج فيها لعلم الاجتماع، مع إضافة قيودٍ -على هذه العلوم- أراها في غايةِ الأهمية، يأتي على رأسها التزامُنا كمؤمنين بمحورية الثّقلين كما جاء في الحديث الشريف كي لا نقع في الضلالِ من حيثُ لا نعلم، قال رسول الله (ص): (إنّي خلّفت فيكم الثّقلين إنْ تمسكتم بهما لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي).
إشارةٌ أخيرة: هناك الكثير من الأفعال التي انتشرت في مجتمعنا اليوم، والتي أظنّ أنّ مُترتَّبَاتٍ عظيمةً لا يُحمد عُقباها شارفت على الظهور نتيجةً لها، بل ظهر بعضها متفرقا، وقارَبَ أن يكونَ ظاهرةً اجتماعيةً دخيلة، ولذلك فليَتفطّن كلّ ذي لب..
محمود سهلان
الجمعة ٧ شهر رمضان ١٤٣٨هـ
الموافق ٢ يونيو ٢٠١٧م