(اللوز) وثقافة (السوق)

بواسطة Admin
0 تعليق

أُحِبُّ ثمر اللوز كثيرًا، وسواءٌ عندي أحمرًا كان أو أصفرًا، فلهذا ذوقه ولذاك ذوقه، وبمجرد دخول موسمه السنوي، أتلفَّت على الباعة باحثًا عن ذاك الذي تحتضن بعضُ سلاله ثماري المفضَّلة فأشتري شيئًا منها.

بالرغم من سعادتي بكيس (اللوز)، إلَّا أنَّني أستاء كثيرًا من غلبة (غير الناضج) على (الناضج)، ولا أبالغ لو قلت بأنَّ (الناضج) منه لا يتجاوز الرُبُع، وأمَّا الباقي (فأخضر) لم يحن أوان قطفه بعد، وأنا أعرف (اللوز) جيِّدًا، فهو لا يسقط على الأرض إلَّا (ناضجًا)، والأخضر عند الباعة لا شك قد (اقتُلِعَ) من الشجرة اقتلاعًا، أو (أُسقِطَ) بالضرب قهرًا!

إَّنه يريد المال، وبعض (لوزٍ ناضجٍ) لن يغطي بقيمته مصاريف الرواح والمجيء والوقوف تحت الشمس لبيعه، وهو لا يجد ضحيَّةً غير (اللوز الأخضر) يعادل به ميزان (الربح).

ما أجمل (اللوز الناضج)، وما أضر (اللوز الأخضر)، فهو فوق حموضته، يسبب آلامًا في البطن وأمراضًا، غير أنَّ البائع لن يتركه وحاله، فهو يريد (الربح) ولن يقبل بحلول أهل (التنظير والتفلسف).. إنَّها ثقافة السوق..

سمعتُ كثيرًا، كما غيري، عن استراتيجية (حرق المراحل)، وهي إرادة بلوغ الهدف دفعة واحدة، على خلاف استراتيجية العمل المرحلي.

مشكلة (حرق المراحل) أنَّها تتعامل مع نتائج (العمل المرحلي)، ولذلك فهي متأخرة دائمًا، ولا تجد طريقًا للحوق غير (الحرق) واللهث وراء النتائج دون التفات أصلًا للأضرار والمتاعب، بل وأكثر من ذلك أنَّها تُحَوِّلُ هذه الأخيرة إلى فضائل كاشفة عن نُبلِ العملِ وصدق النيَّات!

دعوني أضرب مثلًا خطر ببالي..

يشتغل أهلُ الوعظ والإرشاد على (فضح) الأفلام الأمريكية من حيث فقدانها للقيم، وترويجها للعنف والدعارة بمختلف عناوينها، وفي الواقع هُم لا يملكون غير التحذير، وربَّما تمكَّنوا من استصدار فتوى بالتحريم المباشر للفيلم الأمريكي بما هو فيلم أمريكي، وهذا أقصى ما يمكن؛ فصِناعة السينما قد انطَّلقت من هوليود الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى، وما إن اتَّخذت موقعها، حتَّى تمَّ ضمها إلى منظومة الإدارة السياسية، وفي (عمل مرحلي) مدروس استقوى الوجود الأمريكي في ثقافة العالم، من راعي البقر (Clint Eastwood) إلى المحارب الذي لا يُهزم (ٌRocky, Rambo, Arnold) انتهاءً بأفلام غزو الفضاء بعد تأمين الأرض بكيانات ضخمة مثل (CIA, FBI)..

عملٌ مرحليٌّ امتدَّ على خطٍّ زمني استوعب عقودًا من الزمن، فإمَّا أن تخضع له، وإمَّا أن تلاحقه بالوعظ والخطابات، وإمَّا أن تُخطِّطَ وتدخل في مراحل مدروسة تعيش معها موضوعية الأمل نحو قوَّة لا تخاف معها سطوة (Hollywood).

هذا غير ممكن، ولن يكون أبدًا..

كيف يكون، وقد انتَّهت (ثقافة السوق) من انتهاك حرماتنا الفكرية، فما عاد في قدرتنا الخروج عن إطار استراتيجية (حرق المراحل)؛ فالخوف من أن (يسبقنا) الآخر، وتفوتنا الفرصة، قد أحاط بِكُلِّنا، حتى أصبح في أفهامنا أنَّ التفكير في (العمل المرحلي) يلازمه (كشف عوراتنا)!!

فِكرَةٌ جميلةٌ تنضح عن عقلية رائقة، ولكِنَّها في حاجة إلى تداول ومناقشة وبلورة على طريق (النضج) كاللوز الذي أُحِبُّه، ولكِنَّ بائعي العمل في المجتمع (بشكل عام) يعجزون عن ذلك، فيتصارعون على ضربها (الفكرة) والعمل على اقتلاعها لبيعها على جماهير الناس وكأنَّها (قرآن الخلاص)، وإذا بالأمراض والأوجاع تناهل في هيستريا هادئة، فتُدَمِّر وتُدَمِّر وتُدَمِّر، وترى العيونُ دمارَها أرقى بناء!

من الطبيعي أن يتفوَّق صاحب التنظير والفلسفة والدراسات والمخطَّطات، ومن الطبيعي أن يتميَّز عن غيره ببعد النظر وطول النفس في أبنائه وأحفاده، فهو يرفض بحسم شديد، قطف الثمرة قبل أوانها، ويدافع بقوة وصرامة عن تركها لأجيال قادمة تقتطفها أو تنتظرها لتقع على الأرض معلنة النضج والاستعداد للعمل في عروق الزمن..

وللأسف، فثقافة السوق لا تعترف بشهادات عليا، ولا بخبرات ولا تجارب، فهي تدفع صاحبها للحرق في المراحل، وتصوير ذلك بطولة و(نضج)!

فلنزرع اللوز وغيره، وليكن منا العناية سقيًا وتسميدًا حتى تثمر الشجرات، ثمَّ تنضج الثمرات، وحينها فقط، سوف تنتعش عروقنا.

 

السيد محمد علي العلوي

19 سبتمبر 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.