المجتمع.. وفواتير القرار

بواسطة Admin
0 تعليق

أتساءلُ..

هل يُمكِنُ لمجتمَع أنْ يكون هو بِنفسه صاحب القرار في تسيير حياته؟

مجموعة صغيرة تجتمع في غرفة مغلقة، ويُتَّخذ قرار الحرب..

يصدرُ قرارٌ رسمي تتلقَّاه قيادات الجيش، فتأمر فِرقًا من الجنود بالتَّحرك نحو ساحات القتال، وبالفعل يقع ما تَمَّ اتِّخاذ قراره في تلك الغرفة المغلقة، وتبدأ الحرب..

يُقتل بعض الجنود فيُيتم أطفال وترمَّل زوجات وتثكل أمَّهات..

هناك غرفة مغلقة أيضًا، اجتمعت خلف بابها مجموعةٌ من (أصحاب القرار) عند الطرف الآخر، وصدر القرار بالرد، وبالفعل وقع..

فُتِحَ باب الغرفة الأولى ليغلق على قرار آخر..

نضِرب مدرسة ابتدائية من مدارسنا، ثمَّ نتَّهِم العدو بهذه الفعلة لنحرِّك ضدَّه الرأي العام الدولي.. وبالفعل كان..

الناس في دوَّامة الفعل وردِّ الفعل، تتقاذفها قرارات اليوم التي سوف تورِّثها عمَّا قريب لأجيال قادِمَةٍ ثقافاتٍ وأفكارًا.. ويُصنع مستَقبَلٍ من خلف أبواب مغلقة، تتهيكل أجسادٌ قرَّرت، وتُطحنُ أرواحٌ على طريق الغد..

قرَّر أن يشتم.. يسبَّ.. يتعدى بالقول ويتجاوزَ بالتصريح..

لن يسكت الآخر، فهو لا يفهم الآن غير (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)..

نفس الآية يكرِّرها (الطرفان)، ومع مرور الأيام يضيع البادئ، وتبقى ردود الأفعال تفرم الأجيال دون هوادة، ويموت الفاعل الأول ويتحوَّل إلى بطل في الدفاع عن حياض (…)، وكذا من ردَّ عليه، وفي الوقت الذي تتجرَّع فيه المجتمعاتُ ويلات قرارات (النُخَب)، هي بنفسها تصنع نخبًا تمارس ذات الثقافة مطوَّرةً أنيقة في قتلها الإنسان..

كلمة.. قالها وبعد دقائق غادر المجلس وذهب لينام وقد نسي –أصلًا- ما قال وما قيل..

هي كلِمَةٌ، ولكِنَّها تموَّجت بين الحضور، وعلى إثرها اتَّخِذت قرارات، وبعد الفعل الأول وما هدَم، بُنيت أُسُس قراراتٍ مضادَّة، ولم تكن أكثر من كلمة (تقيَّحها) وتمدَّد هيكلًا تشيطن في بدنه لحظةً فأحرق مجتمعًا..

لا يقف الأمر عند هذا الحد..

أمٌّ قرَّرت أن تعيش.. تعيش، يعني أن تخرج ولا تحبس نفسها بين جدران البيت.. تريد أن (تعيش)..

ما هي انعكاسات قرارها على وليدها؟ أولادها؟

لو قرَّرت من أجل أن (تعيش) اعتمادَ الحليب المصنَّع عوضًا عن حليب صدرها..

هو قرار اتَّخذته، ولكِنَّه فعل فعله في شخصيَّة سوف، عمَّا قريب (تُقرِّر).. وسوف تنتَّقم، ولا أدري كيف..

هذا يريد المصالحة، وذاك يريد المواجهة، وثالث أعلن العزلة..

كُلٌّ يروج لفكرته، وبالطبع لن يُظهرها إلَّا وكأنَّها وحيٌ مُنزَل، كما وبالطبع أيضًا لن يترك (التواضع)، وسوف يطلب مشورة الناس.. وربَّما (بكي) لِعظَم المسؤولية..

صفَّقت له الجماهير، ومضت معه في خياره وكأنَّه السُكْرُ هويَّةً ترفض التفريط فيها..

صالحوا.. واجهوا.. انعزلوا..

كلُّها قرارات تعقبها تبعات، وهي قرارات ساعة، ولكِنَّ تبعاتها في أجيال وأجيال..

طيب..

ماذا نفعل؟ مَنْ مِنَ المفترض أن يُفَكِّر؟

ليس مِنَ المعقول أن يوكل القرار إلى جميع الناس، فطبيعة الاختلاف تحول دون الاتِّفاق على قرار واحد، بل من الراجح جِدًّا أن تتحول مناقشة القرارات إلى نزاعات، وربَّما حروب..

أطرح هنا أمرين:

الأوَّل: قبل التفكير في مسألة القرارات وما نحوها من مسائل، فإنَّه لا خلاص للمجتمع من تحمُّل تبعات الغرف المغلقة والطاولات المستديرة، بغير العلم والمعرفة والوعي والحِكمة، ولا معنى لكلِّ ذلك من غير تهذيب للنَّفس، وما لم يُحقِّق المجتمع هذه الأُسس، فإنَّ المآسي لن تنتهي، بل هي إلى ازدياد وتعقيد، وهنا فالحكيم من يعض على الاحتياط بنواجذه، ولا يهم أن يكون في نظر الناس جبانًا متخاذلًا (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

الثاني: أعلم جيِّدًا سذاجة أطروحة الشفافية المطلقة، فهي من أكثر قبائح المخادعات الخطابية؛ فهناك ما يحتاج إلى الكتمان على طول الخطِّ، وهناك ما من المفترض أن يفهمه الناس، ومن الواضح أنَّ القيم الإنسانية تقضي بتحمُّل النُخب والقيادات النسبة الأعظم من مسؤولية النتائج، وكذلك المجتمعات، ولكن بصورة عكسية، فالفواتير والاخفاقات تتحمَّلها النخب والقيادات، وأمَّا المجتمعات فلها النجاحات فقط.

ولذلك، فإنَّ المتصدِّي لا بد أن يكون على أعلى مستويات الإلتزام الأخلاقي والقيمي والحِكمي، وإلَّا فلا بد من عزله، بل والمسارعة في ذلك عند رائحة أيِّ خلل قد يتحمل المجتمع تبعاته.

وأمَّا كيف يُعزَل ومن المسؤول عن عزله، فهذا يُبحث في مقام آخر.

أُشيرُ هنا إلى حتميَّة تحمُّل المجتمعات تبعات بعض القرارات، ولكِنَّ هذا لا ينبغي أن يخرج عن الأطر الاعتيادية، كما ويُفترض من نفس المجتمع العاقل، الإسراع في اكتشاف الخلل والمبادرة لمعالجته وقطع الطريق أمام إفرازاته المستقبلية.

في ختام هذه السطور، أقول مُكَرَّرًا:

للتجهيل ألوان وأشكال، ومن أخطرها التجهيل (بالعلم)، فترى الضحية تحمل شهادات عليا، وتختزن معلومات هائلة، وتحفظ النظريات ومناقشاتها وتأريخها.. ولكِنَّها محصورة، بل غارقة في محيطات التمويهات، وأبعد ما تكون عن الحِكمة..

ولذلك، فإنَّه لا خلاص، بغير العلم والمعرفة والوعي والحِكمة..

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ).

ومن الجيِّد أيضًا لو نفهم معنى (العيب).

والسلام.

 

السيد محمد علي العلوي

12 سبتمبر 2015 ميلادية   

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.