تتميز الروح الرسالية بصمودها وثباتها على طريق العمل والجهاد في سبيل الدعوة إلى قيم السماء دون انتظار منها لمقابل غير إشارة من الله العلي القدير تتجسد في طمئنينة القلب والراحة النفسية في تعب الأجساد وهي ثابتة على الخط من غير ملل ولا كلل، وليس من شك في إن مثل هذه الروحية التي حفرت وجودها الطاهر في لوح التاريخ الزاهر لا يمكن لها الاستمرار لو لم تكن تستمد فكرها من صميم القرآن الكريم وسيرة العترة الطاهرة، وأنا في هذه السطور أهدي أروع الصور الرسالية من الكتاب العزيز لكل قلب رسالي آمن بقضيته الكبرى فضحى ويضحي ويبقى مضحياً في سبيلها ومن أجل الوفاء لها، فكونوا معي أيها الأحبة..
قال المولى تبارك ذكره في تصويره لرسالية العظيم نوح (عليه السلام): (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً)، فكان منهم أنهم (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً)، بل وأكثر من ذلك (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً)، ولكنه (عليه السلام) لم يتعب ولم يعلن الاستسلام بالرغم من هذا الصدود والنفور، ولكنه (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً)، وأيضاً (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) وزدتُ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً)، وضمنت لهم أنه تعالى (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)، ولكن كل ذلك وأكثر لم يزدهم إلا عناداً واستكباراً حتى أنهم أنِسوا الكفران وتطبعوا النفور من دعوة الحق حتى جاء النداء من رب السماء (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)…
الله أكبر.. أي روح تلك التي كان يحلق بها نبي الله نوح (عليه السلام) حتى أنه لم يترك طريقاً ولا سبيلاً إلا وسلكه في دعوته قومه لله عز وجل، وما الذي كان يقف وراء تلك الروح؟
إنه السر الأعظم في معاني (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فالرسالي الصادق لا يعمل إلا من أجل الوفاء لنعم الله تعالى عليه وعلى هذا الوجود، ولذلك هو لا ينتظر من مخلوق (جَزَاء وَلَا شُكُوراً).
اليوم وفي وسط هذا الضياع الفكري الذي يعيشه العالم، نستنهض أرواحنا الرسالية الوثابة لتتمثل سيرة هذا النبي العظيم الذي قدم كل ما يملك لله وفي سبيل الله، كما وأن رسالة أخرى نحذر بها القلوب اللاهية حتى تفيق قبل أن يفور التنور فلا تنفع حينئذٍ استغاثة ولا توبة إذا لم يكن اللحوق بذات الواح ودسر قد سبق.
وفي ثالثة من الرسائل تنشرح صدورنا لبصيرة جديدة، وهي أن نوح ومن كان معه من المؤمنين هم الذين صنعوا السفينة في غير معتاد من الأمكنة، فكان عملهم محل استهزاء القوم وسخريتهم، ولكن الأيام دارت فكان ما استُهزىء به هو المنجي من طوفان قد جاء تلبية لدعاء نوح (عليه السلام) عندما قال (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً).
من هنا أوصي نفسي والآخرين بالمسارعة من أجل صناعة سفينة النجاة التي نركبها عندما يحين الوقت وتأتي ساعة العذاب الحتمية، والتي طالما ذُكرت وتكررت في الكتاب العزيز بعد كل عناد ونفور من الناس في قبال دعوة الحق، وهذه السفينة ليست إلا التمسك بعرى التقوى والورع في زمن ينعت فيه المتقون بالجنون والمتورعون بالتخلف والرجعية والعقد النفسية، فكما أن سفينة نوح صنعت في غير محل الصناعة، كذلك سفينة التقوى والورع تصنع في زمن التحلل والفساد… وهنيئا للصامدين على خط الرسالة..
السيد محمد علي العلوي
7 جمادى الأولى 1431هـ
21 إبريل 2010