في أيام معلومات يرسل الله سبحانه وتعالى رسالة صريحة واضحة مفادها أن الملك ومهما علاً، والقوة ومهما تعاظمت، والسلطة ومهما اتسعت، والمال ومهما تجبل وتكنز وفاض، فإن الحقيقة تقضي بأن كل شيء عائد إلى إليه عز وجل.
إنها أيام الحج عندما يتساوى فيها الجميع في كل شيء عند بيت الله الحرام، فلا الغني يفرق عن الفقير، ولا الرئيس يختلف عن الفلاح، فالكل هناك سواسية في كل الأحكام على الإطلاق، وهذا من أعاظم المفاهيم ومعالي المقاصد الإلهية؛ إذ أن (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) هي من الرسائل الجادة التي يقرأها الحجاج بل والمسلمون جميعا في مثل هذه الأيام الفاضلة.
حقاً، يتوقف الواحد منَّا متعجباً من الإنسان الذي يسلم تلابيب نفسه إلى غرور يرمي به في أسفل سافلين في الوقت الذي كلنا يقرأ قوله تعالى (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)، فيا أيها الإنسان ما الذي تظن نفسك بالغه بمالك أو بقوتك أو بعقلك لولا إذن الله تبارك شأنه؟
دعني هنا أطرح على نفسي وعليك بعض الأسئلة، ولنتدبرها جيداً.. هل تتمكن بكل ما توصلت إليه من علم وقوة وسلطنة أن ترد عن نفسك إمساك المعدة إذا استقوى على الأدوية والعقاقير؟
هل في مقدورك المحافظة رائحة جسمك طيبة ليومين فقط؟ هل في استطاعتك الأمن من حمة قد تصيبك فتقضي عليك في لحظة؟
لا، ولا، وألف لا..فلم كل هذا الغرور والتكبر واستصعاب الاستقامة على خط التدين طالما أنك أيها الإنسان من أولئك الذين (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً)، ولم هذا الظلم من أئمة الظلم وهم لا يتمكنون من دفع عفونة تفرض نفسها عليهم من عشرات المنافذ في أجسادهم، فهل هي إلا لحظة وتخمد الأنفاس فتنطلق صرخة الندم (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً)؟
تعالوا أيها الأحبة لنبحر في موعظة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لجابر بن عبد الله (رضوان الله تعالى عليه) عندما رأه وقد تنفس الصعداء فقال عليه السلام: يا جابر على ما تنفسك؟ أعلى الدنيا؟ فقال جابر: نعم فقال له: يا جابر ملاذ الدنيا ستة: المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح و المركوب والمشموم والمسموع، فألذ المأكولات العسل وهو بصق من ذبابة، وأحلى المشروبات الماء، وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة، وأعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال، ومثال لمثال، وإنما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل، وأجل المشمومات المسك وهو دم من سرة دابة، وأجل المسموعات الغناء والترنم وهو إثم، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل. قال جابر بن عبد الله: فوالله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي.
هذه هي الدنيا عندما ننظر إليها بدقة نظر علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) وميزانه الحق، وهذا مما يريد الله تعالى أن يفهمنا إياه في أيام الحج، فلو أننا استوعبنا هذه الرسالة جيداً لعشنا رساليين لا نأبه إلا بتحقيق أمر الله عز وجل انطلاقاً من قوله (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
السيد محمد علي العلوي
الأول من ذي الحجة 1430هـ
19 نوفمبر 2009