السيد محمد علي العلوي
10 شعبان 1433هـ / 1 يوليو 2012م
عندما يصف الإمام علي (عليه السلام) المتقين في الخطبة (193) من نهج البلاغة، فهل كان (عليه السلام) مثاليًا مجانبًا للواقعية؟ وعندما ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) حق المسلم على المسلم للمعلى، هل كان الإمام خياليًا طوباويًا؟
وحينما يحدد المعصوم (عليه السلام) معايير بينه للمؤمن ويجعلها من صفاته القطعية، فهل كان مخالفًا لقانون النسبية في كل شيء ما عدا النسبية نفسها والتي يبني الكثيرون على إطلاقها؟؟!!
أرجو من القارئ الكريم التركيز معي قليلًا..
عندما يُدخل الآباء أبناءهم إلى رياض الأطفال فإن آمالهم قد تكون معقودة أو لا أقل متطلعة إلى أن ياتي ذلك اليوم الذي يرونهم فيه من حملة الشاهدات العليا كالماجستير أو الدكتوراة، بل وأكثر من ذلك أن يكون عندهم أكثر من ماجستير وأكثر من دكتوراة، وفي الواقع أن هذه التطلعات التي تبدو للوهلة الأولى مثالية تمثل في حقيقتها الدافع الأكبر والباعث المنطقي على أن يسير الأبناء على خطى التحصيل والجهد ومغالبة الظروف وتغييرها بما يخدم الهدف الإستراتيجي وهو نيل الشهادة..
وفي مشهد آخر نرى اليابانيين وبعد تعرضهم للضربة الذرية المدمرة في 1945م وهم يستشعرون ضرورة التحول بالمأساة إلى واقع مثالي متقدم بما لم تحققه أكبر الدول والحضارات، وبالفعل فإن اليابان اليوم وفي فترة قصيرة جدًا تحقق النجاحات العلمية وحتى الرياضية بشكل (مثالي) مذهل..
لاحظوا قول الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).. أوليس التأسي بشخصية مثل شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثالية لا مراعاة فيها للواقع؟
ما أفهمه هو أن الشخصية الرسالية همها السعي على تحقيق المثالية عن طريق معالجة الواقع ثقافيًا وفكريًا، وهذا لا يعني أنها لا تتعاطى بواقعية، بل العكس هي تعيش الواقع بكل تفاصيله من أجل فهمه بشكل جيد كمقدمة على ممارسة التغيير وإحداثه في الخارج، فالتفكير المثالي لا يعني اعتزال الواقع أبدًا، بل هو خلق دافع وجودي لتغيير الواقع نحو الأفضل في محطات يرجى منها الانتهاء إلى المثال –بحسب التعبير الأفلاطوني-، ومسألة التحقق موكلة إلى الله سبحانه وتعالى، أما نحن فشأننا السعي وتصحيح المسارات بالمراجعة والصيانة (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى).
إن لرسم الطريق على أسس مثالية أهمية بالغة في صناعة الإصرار وشحذ الهمم وتجديد الإرادة في نفوس العاملين، وبالطبع فإن هذا لا يعني أبدًا أن ينظر الإنسان مباشرة من تحت قدميه إلى أهدافه المثالية، بل من الموضوعية بمكان أن يقرر المحطات والسيناريوهات المختلفة كل واحد منها بحسب إمكانه.
والقضية الأخرى التي نعاني منها على المستوى الثقافي هي مسألة النسبية ومحق الإطلاق إلا في النسبية نفسها، حتى قالوا بأن كل شيء نسبي ماعدا النسبية فهي مطلقة!!
إنه في الواقع تمييع خطير للأصول والمباني الثقافية المبدعة، فمن غير ثوابت ومعايير راسخة لا يمكننا الاتفاق على حكم على الإطلاق، وأعلم أن الكثير من الأخوة يعانون من مشكلة النسبية الواقعة في التشخيصات الموضوعية، وهذا صحيح ولكن ليس على إطلاقه، إذ أن الأمر إذا دار بين الوجود والعدم أو الإثبات والنفي فالمسألة حينها واضحة لا تحتاج إلى مشورة أو مضاربة بين الرأي والآخر، ومثال ذلك مفهوم الإنسان، فدورانه خارجًا إما وجودي وإلا فهو عدمي، ولا شيء ثالث في البين، أي أن هذا الموجود الخارجي إما أن يكون إنسان وإلا فهو لا إنسان، وإن ثبت أنه إنسان فهو إما أن يكون صادق في نقل الخبر المعين وإلا فهو لا صادق، ولا ثالث في البين، وكلامي هنا في عالم الإثبات وليس الواقع الثبوتي الذي هو في علم الله تعالى فقط.
عندما نخضع كل شيء إلى النسبية فإننا نمحق الحقائق ونسحق الواقع الذي ننادي بضرورة التعاطي معه، ومن هنا قلت أكثر من مرة بأن الآراء ليست كلها محترمة وليس من المفترض أن تقبل لمجرد أنها آراء أطلقها إنسان، فهناك من الآراء ما لا يمكن أن تحوز على احترام موازين التعددية وتقبل الآخر، وهذا كله موكل إلى قوانين ثابتة لا يضر ثبوتها إنكار هذا أو ذاك، وأما واضعها فهو قانون التكوين، ومثال ذلك ميزان الصدق –مثلًا- أو الأمانة، وماشابه من معايير يكون الالتفاف عليها رذيلة ممقوتة.
في السطر الأخير أقول: إنه وبسبب عدم الثبات على معايير واضحة وإطلاقات صحيحة فإننا نعيش اليوم في عالم يكاد أن يكون بلا قيم، ولذلك نرى المشاكل والمصائب التي ما إن نرتق جانبًا منها حتى انفتق جانب آخر..!!