جُهْدٌ أُصُولِيٌّ وَاقِعٌ، وَأخْبَارِيٌّ يُرْتَجَى

بواسطة Admin
0 تعليق

تَمَيَّزَتِ العِصَابَةُ المَرْحُومَةُ من جهة خصوص المسلك الفقهي بمدرستين رئيسيتين أقول باختصار شديد أنَّ إحداهما اعتمدت الجهد العقلي والذِّهني للوفاء بحقِّ أمرين:

الأوَّل: الوقوف على القواعد التي يصاغ على وفقها الحكم الشَّرعي.

الثَّاني: معالجة الفراغ الحادث بسبب غيبة الإمام المعصوم (عليه السَّلام)، والوقوف على ما يسد مسد العلم بواقع الحكم الشَّرعي.

وهي المدرسة الأصوليَّة، والأخرى الأخباريَّة وتُصرُّ في الجملةِ على أمرين:

الأوَّل: الكفاية العلميَّة بالمعتبر ممَّا وصلنا من الأخبار الشَّريفة دون الحاجة لأكثر من فهم النَّصِّ.

الثَّاني: عدم الخروج في موارد الشَّكِّ في مرحلة الاستنباط عن البراءة الشَّرعيَّة أو الاحتياط.

للأصوليِّ مساحة واسعة يُعمِلُ فيها نَظَرَه وتدقيقاته العقليَّة، مادَّتها فرضيَّاتٌ يطلب منها تشييد البناء للقواعد الَّتي تُصاغ على وفقها الأحكام الشَّرعيَّة، وبِعِبارة أوضح أقول:

يُحاول الأصولي الارتقاء إلى عالم الواقع حيثُ مبادئ الأحكام وإنشاؤها وجعلها على عهدة المكلَّف نزولًا إلى عالم الإبراز والإظهار، وهو ارتقاءٌ يفتح الآفاق الواسعة للنَّظر والاجتهاد العقلي.

إنَّ ما قُرِّرَ في كُتُب الأصول مِن إبداعات الأنصاري، وتدقيقات الآخوند، وابتكارات النَّائيني، وتنقيحات الخوئي، ومثلهم مِمَّن سبقهم ومَن جاء بعدهم، وما نراه من تشييد مطَّرِدٍ لقواعد هذا العلم، كُلُّ هذا يُظهِر خطر الميدان العلمي العقلي ودوره الرئيسي في إبراز العالِم وإثبات علوِّ كعبه بين أقرانه.. ولذلك تهفو النُّفوس ويتنافس من طلبة العلم متنافسون.

ومِمَّا يُميِّزُ البحث الأصولي توسُّعه بتوسُّع النَّظر، وهذا ما بدا واضحًا في الاختلافات والتَّوسُّعات الجوهرية بين مباحث الأصول عند متقدِّمي روَّاد هذه المدرسة وبين متأخريهم ومعاصريهم.

الأمر ليس هكذا عند الأخباريين حيثُ تَحَدُّدُ الجهد العلمي بنصوص الثِّقلَين؛ الكتاب العزيز، وما ورد عن العِترة الطَّاهرة، ولا شيء يُفاد من خارج هذه الحدود، ما يعني أنَّ قياس العِلم عندهم بمدى سبر الطَّالب لأغوار النُّصوص الشَّريفة والإحاطة بما فيها من عامٍّ وخاصٍّ، وناسخٍ ومنسوخٍ، ومجملٍ ومُبينٍ، ومعرفة معاريض كلامهم (عليهم السَّلام)، وقد روى الشَّيخ الأقدم (نوَّر الله مرقده الشَّريف) بسنده إلى إبراهيم الكرخي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) إنَّه قال:

“حَدِيثٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ حَدِيثٍ تَرْويِهِ، وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْكُم فَقِيهًا حَتَّى يَعْرِفَ مَعَارِيضَ كَلَامِنَا، وَإنَّ الكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِنَا لَتَنْصَرِفَ عَلَى سَبْعِينَ وَجْهًا لَنَا مِنْ جَمِيعِهَا المَخْرَجُ”[1].

فدون الفقاهة عند الأخباريين إذن جوس مِثل بِحار الأنوار وسبر أغوار ما فيها مجيئًا ورواحًا طلبًا لتحقيق أرفع مستويات الضبط لطريقة أهل بيت العصمة ومناهجهم في الكلام والتخاطب في مختلف الظروف والأحوال.

مِثال:

يبحثُ الأُصُوليُّ الكيفيَّة المُتصوَّرة لِكَون قصد امتثال الأمر شرطًا في صِحَّة الواجب التعبُّدي، وقد تعمَّق بحثُ هذه المسألة وتوسَّع بِما يستجدُّ فيها من نظريات وابتكارات علميَّة على أيدي أساطين الأصوليين بعد أن قيل باستحالة أخذ قصد الأمر في المأمور به كما في مثال: (صلِّ المغرب بِداعي الأمر)؛ حيث إنَّ الدَّافع للأمر حينها هو الأمر نفسه!

بالرُّغمِ مِن احتدام النِّقاش بين الأصوليين فإنَّ الأخباريين لا يجدون داعيًا من الأصل لبحث مِثل هذه القضايا؛ ولو كان بَحثُها مُهِمًّا لَما أهمله أهلُ البيان (عليه السَّلام)، ولذا فهم يرون الخوض في مثلها تَكلُّفًا لِما لم يُكلِّف اللهُ تعالى به.

مَطلَبُ المقال:

لم يتوقَّف الجُهدُ الأُصُولِيُّ عن العطاء على مدى أكثر من أربعة قرون؛ مِنْ معالم الشَّيخ حسن (ت: 1011 ه) إلى عصرنا، وهذا لا يعني توقفه قبل ذلك؛ ولكنَّ هذه القرون الأخيرة شهدتْ جهودًا تطويريَّة واضحة لا سيَّما بعد عصر الوحيد البهبهاني (ت: 1205 ه)، لا لجهد أصوليٍّ قدَّمه (قدَّس الله نفسه)، ولكن لِما كان منه مِن مواجهةٍ للأخباريين في بهبهان أوَّلًا، ثُمَّ كربلاء ثانيًا، وقد أثَّر ذلك في فتح طلبة العلم على الانعطاف بأصول الفقه نحو آفاق أوسع ظهرت في آثار مثل الأنصاري (ت: 1282 ه)، وتلميذه الآخوند الخراساني (ت: 1329 ه)، والنائيني (ت: 1355 ه)، وضياء الدِّين العراقي (ت: 1361 ه)، وصولًا إلى الخوئي (ت: 1413 ه) قدَّس الله أسرارهم ورفع في الجنان مقاماتهم.

إنَّ ما قدَّمه الأُصُوليِّونَ أوضَحَ طَريقَةَ تَفكيرهم ومَسَالِكَ نظرهم في النُّصوص الشَّريفة وفي الموازين الإسلامية لهذه الحياة الدُّنيا، بل وقد جعلوا الإسلام واقِعًا مُتحرِّكًا أظهر قدرة الشَّريعة على مواكبة واقع التطور البشري.

أمَّا الأخباريون فلا نجد لهم ملامح واضحة، ولا يُعرَف عنهم أكثر من رفضهم للمسالك الأصوليَّة، في حين تغيب، حتَّى عنهم أنفسهم فِيما أرى، رؤيتهم للشَّريعة في قبال الواقع المتطور والمتغير للحياة الدنيا بِمَا في ذلك نفس الأحكام الفقهية، بل وحتَّى ما يتعلَّق بالعقيدة!

تتوجَّه رسالة المقال إلى خصوص الأخباريين بضرورة أن يتحمَّلوا مسؤوليَّة إحياء أمر اهل البيت (عليهم السَّلام) بتوضيح القواعد الكبرى لرؤاهم الإسلاميَّة.

أوَّل الكلام: طبيعة الجهد العلمي بناء على الرُّؤيَّة الأخباريَّة:

أشرتُ قبل قليل إلى اجتماع الأخباريين في الجملة على رفض المسالك الأصوليَّة، أو عدم التَّسليم لمناشئها العقليَّة، وقد أصبحت الأخباريَّة ذاتَ سِمَة انفعاليَّة حيثُ إنَّ الرَّافِض للعلوم العقليَّة لأيِّ سبب كان ينسب نفسه إلى الأخباريَّة ويبدأ بقراءة الرِّوايات بدوافع يغلب عليها تغليط الآخر وإظهاره في صورة المُفسِد وأنَّ ما عليه الشِّيعة اليوم ليس هو إسلام الثِّقلَين.

أنَبِّهُ في هذا المِفصَل على أنَّني لا أناقش صِحَّة أو خطأ هذه الدَّعوى، ولَكِنَّني أروم توثيق ما أشاهده فِعلًا، وسواء كان الادِّعاء صحيحًا أم لا فإنَّه لا ينبغي أن يكون هو الدَّافع على البحث والنَّظر في الأخبار الشَّريفة. فافهم رزقني الله تعالى وإيَّاك البصيرة.

تقومُ القناعةُ الأخباريَّةُ على الكفاية العلميَّة التَّامَّة بالنُّصوص الشَّريفة من آيات وروايات. ومن هنا يبدأ الكلام.

بِناءُ النَّصِّ:

ابْتَدَأَ تَكَوُّنُ النَّصِّ الإسلامي بأوَّل حَرفٍ مِن كلمة (اقرأ)، وانتهى بآخر حَرفٍ من كلمةٍ لحديثٍ للإمام المهدي بن الحسن (عليهما السَّلام)، ومِن المُفتَرَض أنَّ هذه النُّصوص ذات مناشئ علميَّة واحدة ثابتة معصومة وإن تعدَّدت صياغاتها، فهي من همزة (اقرأ) إلى آخر حرف من آخر كلمةٍ للإمام المهدي (عليه السَّلام) نَصٌّ واحِدٌ متماسكٌ وَمُحَقِّقٌ لقوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)[2]. ثُمَّ إنَّ الشَّخصيَّة العلميَّة للمعصوم استوعبَتْ بِما أعطَتْ وجادتْ بِهِ مِنْ آنِ أوَّل تبليغ للنبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) إلى آخر آنٍ لآخر بيان للإمام المهدي (عليه السَّلام)، فقد استوعبتْ شخصيةُ المعصوم الَّتي جسَّدها المَعصُومُونَ الأربعة عشر (عليهم السَّلام) قرابةَ 340 سنة؛ أي مِن بداية الوحي إلى قيام الغيبة الكبرى للإمام زماننا المهدي بن الحسن (عليهما السَّلام)، وكانت فيها البيانات متنوعة ومختلفة بناء على الظرف والداعي والمقام، وبمقتضى العصمة والاصطفاء التكوينيَّين فإنَّ كلَّ ظرفٍ وواقعةٍ لن يقول فيها أحدُ المعصومين إلَّا ما يقوله فيها غيره منهم (عليهم السَّلام) على نحو المطابقة التَّامَّة، فلو كانوا كلُّهم (عليهم السَّلام) في كربلاء مطلع العام 61 للهجرة فلن يكونوا إلَّا على مكان عليه الإمام الحسين (عليه السَّلام) دون أدنى فرق على الإطلاق، وعلى ذلك فقِس.

إذن نحن بين يدي وحدةٍ انتظاميَّةٍ علميَّةٍ تَجَسَّدتْ في المَعصُومين (عليهم السَّلام) على مَدَى قُرابة 340 سنة، فالحديث الواحد عنهم جزءٌ من كلِّ الأحاديث، فلا يصحُّ القول بمدلول حديثٍ والقطع به إلَّا من بعد وضعه في سياق غيره من الأحاديث، ولا يصحُّ ذلك دون أن يكون النَّاظر في أحاديثهم (عليهم السَّلام) قد عرف معاريض كلامهم، ومواطن التَّقيَّة، وما نحو ذلك ممَّا له دخالة في فهم الحديث فهمًا صحيحًا مستقيمًا.

الجهد الأخباري المرتجى:

بذل العلماء الأخباريون أو المُحدِّثُون جهودًا على مدى قرون متمادية تركَّزت في الرَّدِّ على من يخالفهم في بعض المسائل الفقهيَّة كصلاة الجُمعة من حيث الوجوب وعدمه، والأصوليَّة كما في مقدِّمة الواجب، ولكنَّ الَّذي نتطلَّع إلى شهادة ومعاصرة أمثاله من الفقهاء الأخباريين المُحدِّثين فهو شيخنا الأنور أبو جعفر محمَّد بن الحسن بن علي الحر العاملي (ملأ الله تعالى مرقده الشَّريف طيبًا ونورًا) – (ت: 1104 ه)؛ فقد كان في سباق مع الزَّمن ليبين غنى المدرسة العلميَّة الشِّيعيَّة مطلقًا بالثِّقلَين الشَّريفين عن كلِّ ما دونهما من مصادر العلم والمعرفة لا سيَّما في ما يخصُّ العقيدة والفقه، فألَّف إلى جانب تفصيل وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشَّريعة، وشرحه في تحرير وسائل الشِّيعة وتحبير مسائل الشِّريعة في شرح وسائل الشِّيعة:

  • إثبات الهداة بالنُّصوص والمعجزات.
  • الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرَّجعة.
  • رسالة في الرَّدِّ على الصُّوفيَّة.
  • الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة.
  • تواتر القرآن.
  • العربيَّة العلويَّة واللغة المرويَّة.

وغيرها من المُصنَّفات القائمة أوَّلًا وثانيًا على النُّصوص الشَّريفة، وهي مصنَّفات نحتاج إلى تحقيق متونها وتخريج أحاديثها وتنقيح مسائلها الَّتي أوضحها شيخنا المُصنِّف (قدَّس الله نفسه) في العناوين على رأس كلِّ مجموعة مُصنَّفة من الأحاديث، ولكنَّ الحاصل هو عدم كلِّ ذلك، وها هي النُّسخ المتداولة في غاية التخلُّف عن التحقيق والإخراج الجيِّد والطِّباعة المناسبة، إلَّا بعضها وليست بِمَا يٌرتَجى ويليق بها من عمل علميٍّ رصين.

إنَّه فُتُور لن يطول الأمد بالأخباريين حتَّى يرون حسرة ما ضيعوه بسببه وآثار اغترارهم -ربَّما- بوجود أفرادهم في جماعات لا أراها قادرة على مواجهة تحدِّيات الواقع، وهي تحدِّيات كُبرى بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى.

إنَّ هذا الفتور ظهر في الجمود على جهود المُحدِّث البحراني، وابن أخيه علَّامة البحرين، والمُقلَّد صاحب الكنز، وقد هُجِرَت الآثار العلميَّة المتينة لأكابر الفقهاء مِن أمثال السماهيجي والماحوزي والمقابي وغيرهم (رضوان الله تعالى عليهم)، واكتفى أخباريُّو زماننا – في ما أرى – برفض الأصوليَّة والتَّميُّز عنها بإقامة الجُمُعة على نحو الوجوب التعيُّني! والانغلاق على أنفسهم، وهو انغلاق لا أظنُّه يطول مع ما عليه العالم من طوفان ثقافي بأدوات أخطبوطيَّة غاية في القوَّة وشراسة الافتراس.

بين الجهدين:

إنَّ للبحث الأصولي لذَةً تستنهض في طالب العلم حبَّ التميُّز، وكلَّما دقَّ نظره وحدَّ فهمه اشتدَّ انجذابه للمطالب الأصوليَّة وبحثها وتتبُّع آراء الأعلام في مسائلها ومسالك مناقشاتهم لها، ثُمَّ إنَّ لتمكُّن الأستاذ مِن المادَّة العلميَّة الأصوليَّة دورًا كبيرًا في احتواء الطالب ووضعه على مدارج الترقِّي في عِلم أصول الفقه.

ليس الأمر كذلك في المسلك الأخباري؛ إذ إنَّ العمل كل العمل مع مجموعة هائلة من النُّصوص يكون فيه الاعتبار للعالِم الأستاذ مُحدَّد في كشف الغوامض وبيان طريقة التَّتبُّع، ثُمَّ إنَّ انتظام فهم الطالب في الوحدة العلميَّة للنصوص الشَّريفة موكلٌّ إليه، لذا كان الجهد الأخباري أصعب بكثير من غيره، ولن ينفع فيه مجرَّد الحفظ أو الوقوف على بحوث العلماء ما لم تكن إحاطة الطالب بمنظومة النُّصوص متقدِّمة فعلًا.

إنَّ ما أحتمله، مع بالغ اعتذاري، هو انحسار الهِمم وضمور العزائم عند كبار المدرسة الأخباريَّة والاكتفاء فيها بتقليد أعلامها! وإلَّا فإنَّ نُصُوصَ الثِّقلَين نورٌ يمتدُّ شعاعُهُ ساطعًا إلى قيام السَّاعة، ولكنَّه نورٌ يُؤتى ولا يأتي، وبسبب التراجع العلمي العام أصبح الأخباريُّون في نظر كثيرين جماعةً بِلا منهج علمي واضح.. حشويَّة.. عاجزين عن المجاراة العلميَّة للأصوليين، وقد تحدَّثتُ فِعلًا مع أحد العلماء وكان يرفض نسبتَه إلى الأخباريَّة؛ وأظنُّ ذلك لتمسُّكِه الشديد بالوارد في النصوص، ولعدم ورود هذه التسميَّة فهو يرفضها، ولكن كيف كان، فهو على هذا المسلك.. طلبتُ منه كتابةَ شيء واضح في مسألة فقهيَّة، أو في بيان منهجه العلمي أو ما شابه، ولكنَّه رفض بشدَّة، ولم يَظْهَرْ لي مُبرِّرٌ واضحٌ لرفضه!

لذا فإنَّ ما أحتمله هو الضعف عن النَّظر في الروايات الشريفة نظر إلمامٍ وإحاطةٍ كالمجلسي والحرِّ والعَلَمَينِ مِن آل عصفور (نوَّر الله مراقدهم الشَّريفة).

واقِعٌ قائِمٌ فعلًا:

نشهد اليوم هيجانًا ثقافيًّا لا يُعرَف أوَّله من آخره، ولا رأسه من قدميه، ولا إقباله من إدباره، بل هو أشبه ما يكون بفتنة عظيمة متلاطمة قد أصابت الدَّهماء ولم تدع أحدًا إلَّا لطمَتْهُ وأحدثتْ فيه أثرًا، إلَّا من رحِمَ ربِّي، وفي خِضمِّها نحن في حاجة متعاظمة وماسَّة لكلِّ جهد إسلامي علمي أصيل يُبَيِّنُ الطريقَ ويُبعد الأيتام الكِرام عن مطاحن الواقع المفروض، ومِن تلك الجهود المطلوبة الجهد الأخباري لا سيَّما بعد تعرُّض الكثيرين له بالتُّهم والاستصغار والتحقير، حتَّى صرَّح بعضهم بالتحذير من رفع الأخباريَّة رأسها وإلا فلن يكون منها غير إرجاع الأمَّة للتخلُّف والرَّجعيَّة، وهذا، ويا للأسف، من أقلِّ ما قِيل!

يحتاج الواقع الإسلامي اليوم إلى الجهد الأخباري ليطرح نفسه وجودًا عِلميًّا بعيدًا عن مناكفة الآخر والانشغال بتضعيفه أو مواجهته، بل المطلوب هو أن يُظهِر نضجه وقوَّة دعواه بكونه مُغنيًا عن كلِّ ما يقوم به الأصوليُّون والفلاسفة والمتكلِّمون من جهود علميَّة هي اليوم صاحبة اليد العليا، بل لا منافس لها في ميادين العلم.

تنبيهٌ مهمٌّ:

إنَّ ما ندعو إليه ليس بالضرورة أن يكون مُخرِجًا للأخبَاري عن حدود مِثل ما في وصية لقمان لابنه[3] “ولَا تَنْشُرْ بَزَّكَ إِلَّا عِنْدَ بَاغِيه”، بل هو في حدود قوله: “يَا بُنَيَّ، لَا تَقْتَرِبْ فَتَكُونَ أَبْعَدَ لَكَ، ولَا تَبْعُدْ فَتُهَانَ”.

لم ينته الكلام، ولم أفرغ ممَّا أريد قوله، ولكنَّ في ما جرى به القلم كفاية لِمَن يتطلع للفهم وينشد آثاره.

عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا، وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[4].

 

السَّيد محمَّد العلوي

23 رجب 1445 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………

[1] – معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – ص 2

[2] – الآية 89 من سورة النحل

[3] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 642

[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.