المبدأ الأصل في مسألة تفسير الكتاب العزيز

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين

المبدأ الأصل في مسألة تفسير الكتاب العزيز

مدخل:

قال سبحانه في الكتاب العزيز: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[1]، وفي محاسن البرقي بسنده إلى جابر بن يزيد الجعفي، قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السَّلام) عن شيءٍ من التَّفسير فأجابني، ثُمَّ سألتُه عنه ثانيةً فأجابني بجواب آخر، فَقلتُ: جُعِلْتُ فداك، كنتَ أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم!

فقال (عليه السَّلام): يا جابر، إنَّ للقرآن بطنًا ولِلبَطْنِ بطنًا، وَلَه ظَهْرٌ وللظَّهر ظَهْرٌ، يَا جابر، ليس شيءٌ أبعد من عقول الرِّجال من تفسير القرآن؛ إنَّ الآية يكون أوَّلها في شيءٍ وآخرها في شيء، وهُوَ كلامٌ متَّصلٌ مُنصَرفٌ على وُجُوه”[2].

يتجدَّد الخلاف حول مسألة تفسير الكتاب العزيز من جهة كونه مقصورًا على من نزل في بيوتهم (عليهم السَّلام)، أو أنَّه بيد من يمتلك العلم وأدوات التفسير ولو في الجملة، ومن بين هذين التَّوجهين ظهرت مدارس ونظريات في مسألة التَّفسير، ثُمَّ إنَّها أصبحت موادَّ علميَّة تدور عليها رحى الدَّرس والتَّخصُّص.

بيان المبدأ الأصل للمسالة:

الخالق تبارك ذكره والإنسان من جهة الفهم والتفهيم:

سِمَةُ التركيب أصلٌ في فهم الإنسان؛ فهو لا يُنتِجُ فهمًا إلَّا بتركيب صورة مع أخرى، حتَّى لو جيء له بنفس المعنى المطلوب إخطاره في ذهنه، فإنَّه لن يعيه ما لم تلتقِ صورتُه بِعِلْمٍ سابق عليها في نفسه، كما لو أراد أحدٌ إخطار الكتاب في ذهن آخر وجاء له بِعينه، فهذا الآخر لن يعي الكتاب ما لم تكن في ذهنه صُورُ ما يتركَّب منه الكتاب من ورق وحبر وطول عرض، ولنفس هذه المفردات تركُّب خاصٌّ في ذهنه، أو أن تكون قابلة للتركُّب، فتلتقي الصورة الخارجيَّة للكتاب مع الصوُّرة الذِّهنيَّة فيحصل علمٌ بكون هذا الموجود الخارجي كتابًا.

من بعد تعذُّر إحضار كلِّ عين يُراد معناها حَضَرَتِ الأدَاةُ الدَّالَّةُ وَمنها الكلماتُ الملفوظةُ ثُمَّ المرسومةُ، فينتقل الذِهنُ منها إلى المعنى المُرَاد، ومن هنا يبدأ الكلام في مبدأ أصيل من مبادئ مسألة التَّفسير، وبيانه:

أوَّلًا: صاحب الخطاب: هو الطرف الَّذي يريد إخطار معنى معيَّنًا في ذهن آخر أو آخرين، وقد يكون مصيبًا في ما يريد وقد يكون مُخطِئًا، وقد يريد حقًّا، وقد يريد باطلًا، ورُبَّما أراد معنى وأضلَّه بسوء اختياره لِما يدلُّ عليه.

ثانيًا: المُخَاطَب: وهو الطرف الَّذي يتلقَّى الدَّال على ما يريده صاحبُ الخطاب، وقد ينتقل ذهنه انتقالًا صحيحًا من الدَّال إلى المدلول المُراد، وقد يضلُّ الطريق، وضلاله يرجع إلى أسباب مِن أهمِّها مادَّته الَّتي يفهم بها الخطاب، وهي المادَّة الَّتي تُكونها جملة من المُحصَّلَات والحاصلات، أمَّا الأولى فمِنها ما يتلقاه من علوم في المدارس والجامعات وما نحوها، أمَّا الحَاصِلَات فهي المُكوِّنه لثقافته وذائقته العمليَّة، ومحلّها تربويات الأسرة والبيئة المحيطة وما إلى ذلك، لذا نرى فهم الهندي لنصٍّ يختلف عن فهم الحِجازي لنفس النَّصِّ، وكلاهما يختلفان عن الفارسي في فهمه، وما ذاك إلَّا لاختلاف الحاصل في نفسه وبنيته الفكرية من خلال بيئة النَّشأة، أو البيئة المؤثِّرة كمثل الَّذي يهاجر للدِّراسة في بلد تختلف مبادئه عن بدله فيتأثَّر ويرجع لا هو ابنُ بلده ولا هو ابنُ تلك البلد، ويظهر ضياعه في فهمه وتفسيره لمقولات بلده!

الخطاب من الله تعالى: ينتفي مجرَّد احتمال الخطأ، فصاحب الخطاب هو الله جلَّ في عُلاه؛ يعلم ما يريد، ولا شكَّ في صحَّته من جميع جهاته مطلقًا، ثُمَّ إنَّه تبارك ذكره يستعمل الدَّال اللفظي الصحيح مطلقًا للدلالة على مراده.

فالخطاب إذن تامٌّ من جميع جهاته دون وجودٍ لاحتمال الخطأ.

حديث الثِّقْلَين ومسألة العصمة:

روى ثقة الإسلام بسنده إلى سُلَيم بن قيس الهِلالي، قال في ما قال عن عليٍّ (عليه السَّلام): “قَالَ رَسُولُ اللَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه:

إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا؛ كِتَابَ اللَّه وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ؛ وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه، ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ؛ وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا”[3].

وهنا جهتان:

الأولى: مطابقة قول الإمام (عليه السَّلام) لمقاصد الله سبحانه وتعالى.

الثَّانية: التَّمسُّك بالإمام (عليه السَّلام) تمسُّكٌ بالثِّقلَين.

روى الشَّيخ الكليني بسنده إلى منصور بن حازم قال: “قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (علَيهِ السَّلام): إِنَّ اللَّه أَجَلُّ وأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِه، بَلِ الْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِاللَّه.

قَالَ (عليه السَّلام): صَدَقْتَ.

قُلْتُ: إِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَه رَبًّا فَيَنْبَغِي لَه أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّبِّ رِضًا وسَخَطاً وأَنَّه لَا يُعْرَفُ رِضَاه وسَخَطُه إِلَّا بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِه الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَه أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ الْحُجَّةُ وأَنَّ لَهُمُ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ، وقُلْتُ لِلنَّاسِ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللَّه عَلَى خَلْقِه؟ قَالُوا: بَلَى. قُلْتُ: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اللَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِه؟ فَقَالُوا: الْقُرْآنُ.

فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِه الْمُرْجِئُ والْقَدَرِيُّ والزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِه حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِه، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيه مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقًّا. فَقُلْتُ لَهُمْ مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ؟

فَقَالُوا: ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وعُمَرُ يَعْلَمُ، وحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ.

قُلْتُ: كُلَّه؟

قَالُوا: لَا.

فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُقَالُ إِنَّه يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّه إِلَّا عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلام)، وإِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي وقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي وقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي، وقَالَ هَذَا أَنَا أَدْرِي. فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلام) كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ، وكَانَتْ طَاعَتُه مُفْتَرَضَةً، وكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ.

فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلام): رَحِمَكَ اللَّه”[4].

فَعَلِمْنَا:

  • أنَّ القرآن لا يكون حجَّة إلَّا بقيِّم.
  • لا قيِّمَ إلَّا أن يكون عالِمًا بِكلِّ القرآن.
  • قيِّمُ القرآنِ طاعتُه مفترضة، وهو حجَّةٌ على النَّاس.
  • قَيِّمُ القرآن قَولُهُ حقٌّ.

المُخاطب الأصل:

خاطب الله سبحانه وتعالى العِباد بمختلف التشريعات وبلَّغهم آيات الكتاب العزيز بواسطة رسوله الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) مُؤيَّدًا بآيات سورة النجم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)، ولأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) كذلك كان الأمين على رسالة ربِّه جلَّ في علاه والمبلغ لها كما هي وكما يريد الباري تبارك ذكره دون نقيصة ولا زيادة ولو بمقدار حَرفٍ واحدٍ، فلا معنى للإنكار على القول بإحالة التفسير إليهم (عليهم السَّلام)، بل المتعين رجوعه إليهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قاموا به كما تدلُّ عليه رواية أبي ذر الغفاري، إذ قال: “لَمَّا تُوفِّي رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) جَمَعَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلامُ) القُرْآنَ وَجَاءَ بِهِ إلى المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَار وَعَرَضَهُ عَلَيْهِم لِمَا قَدْ أَوصَاهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ (صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)” وبعد ان رأى بعضٌ ما فيه من صفحاته الأولى، قيل له (عليه السَّلام): “يَا عَلِيُّ، ارْدُدْهُ؛ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيِه. فَأَخَذَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَانْصَرَفَ”[5].

وقد بَثَّ الأئمَّة (عليهم السَّلام) شيئًا مِمَّا توارثوه في أحاديثهم الشَّريفة مُبيِّنين في بعض الموارد بعبارة: “إنَّا وجدنا في كتاب علي أمير المؤمنين (عليه السَّلام) …”.

ومِمَّا يؤيِّدُ ذلك:

روى في الاحتجاج قول رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) في يوم الغدير: “مَعَاشِرَ النَّاسِ، تَدَبَّرُوا القُرْآنَ وَافْهَمُوا آيَاتِهِ وَانْظُرُوا إلى مُحَكَمَاتِهِ وَلَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابَهَهُ، فَواللهِ لَنْ يُبَيِّنَ لَكُم زَوَاجِرَهُ وَلَا يُوَضِّحَ لَكُم تَفْسِيرَهُ إلَّا الَّذِي أَنَا آخِذٌ بِيَدِهِ وَمُصَعِّدُهُ إلَيَّ – وَشَائِلٌ بِعَضُدِهِ – وَمُعَلِّمُكُم إنَّ مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاهُ، وَهُوَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِب (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَخِي وَوَصِيِّي، وَمُوَالَاتُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهَا عَلَيَّ.

مَعَاشِرَ النَّاسِ، إنَّ عَلِيًّا وَالطَّيِّبِينَ مِنْ وُلْدِي هُمُ الثِّقْلُ الأصْغَرُ، وَالقُرْآنُ الثِّقْلُ الأكْبَرُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُنْبِئٌ عَنْ صَاحِبِهِ وَمُوَافِقٌ لَهُ، لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ. هُم أُمَنَاءُ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَحُكَمَاؤهُ فِي أَرْضِهِ. ألَا وَقَدْ أَدَّيْتُ، ألَا وَقَدْ بَلَّغْتُ، أَلَا وَقَدْ أَسْمَعْتُ، أَلَا وَقَدْ أَوْضَحْتُ، أَلَا وَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَأنَا قُلْتُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَا إنَّهُ لَيْسَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ غَيرَ أَخِي هَذَا، وَلَا تَحِلُّ إِمْرَةُ المُؤمِنِينَ بَعْدِي لِأحَدٍ غَيرهُ”[6].

وروى في المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) في رسالة: “وَأمَّا مَا سَألْتَ مِنَ القُرْآنِ فَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَطَرَاتِكَ المُتَفَاوِتَةِ المُخْتَلِفَةِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ لَيْسَ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَكَلَّ مَا سَمِعْتَ فَمَعْنَاهُ غَيْرَ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ. وَإنَّمَا القُرْآنُ أَمْثَالٌ لِقَومٍ يَعْلَمَونَ دُونَ غَيرِهِم، وَلِقَومٍ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَهُ، فَأمَّا غَيرُهُم فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالِهِ عَلَيْهِم وَأَبْعَدَهُ مِنْ مَذَاهِبِ قُلُوبِهِم، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): لَيْسَ شَيءٌ بِأبْعَد مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، وَفِي ذَلِكَ تَحَيَّرَ الخَلَائِقُ أَجْمَعُونَ إلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، وَإنَّمَا أَرَادَ اللهُ بِتَعْمِيَتِهِ فِي ذَلِكَ أنْ يَنْتَهُوا إلى بَابِهِ وَصِرَاطِهِ، وَأنْ يَعْبُدُوهُ وَيَنْتَهُوا فِي قَولِهِ إلى طَاعَةِ القُوَّامِ بِكِتَابِهِ وَالنَّاطِقِينَ عَنْ أَمْرِهِ، وَأنْ يَسْتَنْطِقُوا مَا احْتَاجُوا إلَيهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُم، لَا عَنْ أنْفُسِهِم. ثُمَّ قَالَ: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[7]، فَأمَّا غَيرُهُم فَلَيْسَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَبَدًا وَلَا يُوجَدُ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيِمُ أنْ يَكُونَ الخَلْقُ كُلُّهُم وُلَاةَ الأمْرِ؛ إذْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَأتَمِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْ يُبَلِّغُونَهُ أمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ، فَجَعَلَ اللهُ الولَاةَ خَوَاصَّ لِيَقَتَدْي بِهُم مَنْ لَمْ يَخْصُصْهُم بِذَلِكَ. فَافْهَمْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ، وَإيَّاكَ وَإيَّاكَ وَتِلَاوَةَ القُرْآنِ بِرَأيِكَ، فَإنَّ النَّاسَ غَيرُ مُشْتَرِكِينَ فِي عِلْمِهِ كَاشْتِرَاكِهِم فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الأُمُورِ، وَلَا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى تَأويِلِهِ إلَّا مِنْ حَدِّهِ وَبَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَهُ. فَافْهَمْ إنْ شَاءَ اللهُ وَاطْلُبْ الأمْرَ مِنْ مَكَانِهِ تَجِدْهُ إنْ شَاءَ اللهُ”[8].

المُتحصَّل:

إنَّ مِن تمام الحِكمَة أن يجعل صاحبُ الخِطَابِ المُحْكَم لِخطابه مَحَلًّا يوافق حكمته وإحكامه ليحمله إلى من هم دونه مِن القاصرين عن إدراك معانيه المحكمة وحكمته البالغة، ومن ذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “قَامَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السَّلام) خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا تُحَدِّثُوا الْجُهَّالَ بِالْحِكْمَةِ فَتَظْلِمُوهَا، ولَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ”[9].

هذا وعموم الحكمة قد يصلها المُقصِّر بطلبه للعلم، وقد يقصر عنها من كان من أهلها، أمَّا الكتاب العزيز فلا تناله عقول الرِّجال، وبعد عن قلوبهم كما هو نصُّ الرِّوايات الشَّريفة، وإنْ حاز عالِمٌ أدوات التَّفسير فهو لن يبلغ درجة القطع بإصابته لواقع ما يريد الله تعالى من الدَّالِّ القرآني فيُضَلُّ الطريقُ، ويتوهَّمُ الرَّأيُ الإصَابَةَ!

لِذا فإنَّ الأوامر الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) واضحة في المنع عن الابتعاد عن أئمة الهدى (عليهم السَّلام) في تفسير آيات الذكر الحكيم، بل لا تبعد صحَّة حتمية الوقوع في التفسير بالرَّأي بمجرَّد الابتعاد عن تفسير الأئمة الطاهرين (عليهم السَّلام). فتأمَّل.

ثُمَّ إنَّ الرِّوايات الشَّريفة التَّفسيريَّة محفوظة في كتب الحديث، فلِمَ لا يُكتفى بها وفيها الضمانة والعصمة من تضييع الطريق؟

ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.

مسألة التدبُّر:

يُقال: يأمر الكتاب العزيز بتدبُّر آياته ويُنكر على تاركيه، كما في قوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[10]، وليس التدبُّر إلَّا للفهم، وما فُهِمَ فقد فُسِّر.

فنقول: لا ملازمة بين التدبُّر والتفكُّر والنَّظر وبين البتِّ بالأحكام، بل الحري بالعاقل أن يتدبَّر ويتفكَّر وينظر، ثُمَّ يرجع بما يتحصَّل لديه إلى العالِم الحكيم ليوقفه على الصحيح من السقيم ويرشده الطريق المستقيم، وما دون ذلك فأخشى ما يخشى منه الاستغناء بالرَّأي والوقوع في براثن طُغيانٍ خفي يدبُّ في النَّفس متحلِّيًا برداء غيره.

إنَّ من أهمِّ ما يتميَّز به العاقِلُ الحَصِيفُ أمرين؛ أولهما القدرة على التحليل والتأمُّل وقوَّة التَّفكُّر والنَّظر، والآخر رجوعه الحتمي بما تحصَّل لديه إلى العالِم، وفي ما نحن فيه مُتَعَيِّنٌ في المعصوم (عليه السَّلام) بشخصه أو ما حُفِظِ قوله الشَّريف، وإن لم يجده أمسك وسكت إلى حين لقياه، فهو لن يجازف لحظةً، إلَّا أن ينسلخ في تلك اللحظة عن لباس العقل والحكمة.

عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا، وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[11].

من الواضح أنَّ قوله (عليه السَّلام): “فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ” شامل ومستوعب لتفسير القرآن الكريم وغيره. فلا تغفل رعاك الله تعالى.

ولتكن الفروع شامخةً مِمَّا أفاده المعصومون (عليهم السَّلام) في خصوص تفسير الكتاب العزيز، وقد أصَّلوا وتركوا لنا التَّفريع.

روى زُرَارةُ وأبو بصير عن الباقر والصَّادق (عليهما السَّلام) أنَّهُمَا قَالا: “إنَّمَا عَلَيْنَا أنْ نُلْقِىَ إلَيْكُمُ الأُصُولَ، وَعَلَيْكُم أنْ تُفَرِّعُوا”[12]، ولا يخفى أنَّ الفرع من الأصل، وليس بخارج عنه، لذا فما نفهمه من (التفريع) هو من قبيل استخراج النتيجة المحفوظة في المقدمات، كما هو الحال في القياس المنطقي الذي تكون النتيجة فيه مستخرجة من صغرى القياس وكبراه، وهو المتعيَّنُ في اللغة؛ قال ابن فارس: “(نبط) النُّونُ وَالبَاءُ وَالطَّاءُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى اسْتِخْرَاجِ شَيءٍ، وَاسْتَنْبَطْتَ المَاءَ اسْتَخْرَجْتَهُ، وَالمَاءُ نَفْسُهُ إذَا اسْتُخْرِجَ نَبَطَ. وَيُقَالُ إنَّ النَّبطَ سُمُّوا بِهِ لاسْتِنْبَاطِهِمُ المِيَاه”[13].

نسأله تعالى العفو والعافية، والخير والصَّلاح، إنَّه سميع مجيب.

 

وكتبه راجيًا عفوَ ربِّه ورضاه

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

الرَّابع من شهر رجب الأصب 1445 للهجرة

البحرين المحروسة

………………………………………

[1] – الآية 17 من سورة القمر.

[2] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 2 – ص 300

[3] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 415

[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 168 – 169

[5] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 1 – ص 228

[6] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 1 – ص 75 – 76

[7] – الآية 83 من سورة النِّساء

[8] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 268

[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 42

[10] – الآية 24 من سورة محمَّد

[11] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391.

[12] – عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي – ج 4 – ص 63 – 64.

[13] – معجم مقاييس اللغة – أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا – ج ٥ – ص ٣٨١.

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.