بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
مُخْتَصَرٌ في مَقَامَيِّ الفَقَاهَةِ وَالمَرْجَعِيَّةِ، وَالحُجِّيَّةِ لرُوَاةِ الحَدِيِثِ
إنَّ مِن أشَدِّ المقامات والمواقع خطورةً مقام الفقاهة وموقع المرجعيَّة الدينيِّة، ولا غرو في ذلك مع إدراك كون الفقاهة ليست مجرَّد القدرة على استنباط الأحكام الشرعيَّة مِن ادلتها التفصيليَّة في الشريعة عن ملكة راسخة؛ حيث إنَّها ممَّا يمكن تحصيله بالدرس والجد في التحصيل، وهو ما أحرزه مستشرقون وغيرهم من المدسوسين في الحوزات العلميَّة إبَّان بعض الحُقَب التاريخيَّة التي تسلطت فيها أنظمةُ حكمٍ بقبضاتٍ فيها ما فيها من الشَّراسَة ضِدَّ الدِّين وأهله، بل وقيل بوصول بعضهم إلى مزاحمة الفقهاء مواقع المرجعيَّة!
لِذا فإنَّ القدرة على استنباط الأحكام الشرعيَّة مِن أدلتها التفصيليَّة لا كشف لها عن أكثر من نفس القدرة بتطبيق القواعد الصناعيَّة المُفادة مِن علوم آليَّة معروفة تجتمع بأنحاء مختلفة في عِلم أصول الفِقه، ونفس هذه القدرة لا تُساوي الفقاهة وإنْ كشفتْ عن التمكُّن الصناعي والهيمنة والتسلُّط على قواعدها.
وكيف كان، فإنَّ الفقاهة مقام يثبت لِمَن خَبَرَ الرواية عنهم (عليهم السَّلام) وعقلها عقل دراية وفهم وعِلم حتَّى أصاب درجةً أصبح فيها قادرًا على إرجاع متشابه الحديث إلى محكمه، ومجمله إلى بيِّنِه، وحمل خاصِّه على عامِّه فوقف بقدم راسخة على معاريض كلامهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فكان الفقيهَ المُحَدِّثَ المُتحمِّلَ للحجيَّة التي جعلها له الإمام المعصوم (عليه السَّلام) كما في التوقيع الشريف: “فإنَّهُم حُجَّتِي عَلَيْكُم وَأنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِم”[1].
دار نقاش مع بعض الفضلاء حول مدلول قوله (عليه السَّلام): “وأمَّا الحَوادِثُ الوَاقِعَةُ فَارجِعُوا فِيهَا إلى رُوَاةِ حَدِيِثِنَا؛ فَإنَّهُم حُجَّتِي عَلَيْكُم وَأنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِم”، وتحديدًا في (الرواة) المقصودين في كلامه الشَّريف (عليه السَّلام).
ففي سطور موجزة أقول مستعينًا بالله جلَّ في عُلاه:
إنَّ إثباتَ الحجيَّة للرواة الذين أُمِرنا بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة دافِعٌ لاحتمال إجمالهم في المتحملين للحديث عنايةً وضبطًا لِتَأديته لغيرهم دون رعاية وفهم؛ إذ إنَّ الحجيَّة لمجرَّد التحمُّل والأداء تُتصوَّرُ في موارد أخذ الحديث ثِقَةً في مصدره، والأولى حينها أن يكون الأمر بالإرجاع إلى القادر على الاستنباط الذي يأخذ مادَّته العلميَّة من رواة الحديث، وهذا أبعد عن دلالة الحديث من البعد ما بين المشرقين.
إنَّ ما نقطع به هو أنَّ رواة حديثهم (عليهم السَّلام) الَّذين أُمرنا بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة هم خصوص الفقهاء المُحَدِّثِين المتحمِّلين للأخبار عن عقلٍ ودرايةٍ وفهم، وتَدلُّ عليه مَرفُوعَةُ أبي عليٍّ مُحمَدِ بنِ أحمد بنِ حَمَّادٍ المَروزِي المَحمُودي، قال: قال الصَّادِقُ (عليه السَّلامُ): “اعرِفُوا مَنَازِلَ شِيِعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رُوايَاتِهِم عَنَّا، فَإنَّا لَا نَعُدُّ الفَقِيِهَ مِنْهُمُ فَقِيِهًا حَتَّى يَكُونَ مُحَدَّثًا.
فَقِيِلَ لَهُ: أَوَ يَكُونُ المُؤمِنُ مَحَدَّثًا؟
قَالَ (عليه السَّلام): يَكُونُ مُفَهَّمًا، وَالمُفَهَّمُ مَحَدَّثٌ”[2].
ومِمَّا ينبغي التنبُّهُ إليه هو وجود جِهةٍ تقوم بدور المُفَهِّم لخصوص الراوي الفقيه، إذ إنَّ فهمه ليس لتميزه بالفهم عن ذكاءٍ ونبوغٍ خَاصَّين، وإنَّمَا لأهليَّةٍ مُفاضةٍ مِن الله جلَّ في علاه، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[3]، وعن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام)، قال: “ليسَ العِلمُ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّمِ؛ إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيِدُ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ، فَإذَا أرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أوَّلًا فِي نَفْسِكَ حَقِيِقَةَ العُبُودِيَّةِ وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللهَ يُفَهِّمَك”[4].
وقد روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “كَانَ عَلِيٌّ (عليه السَّلام) مُحَدَّثًا، وَكَانَ سَلْمَانُ مُحَدَّثًا.
قال: قلتُ: فَمَا آيَةُ المُحَدَّثِ؟
قال (عليه السَّلام): يَأتِيهِ مَلَكٌ فَينْكِتُ فِي قَلْبِهِ كَيتَ وَكَيتَ”[5].
وَعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): مَا مَوْضِعُ الْعُلَمَاءِ؟
قَالَ (عليه السَّلام): مِثْلُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وصَاحِبِ سُلَيْمَانَ، وصَاحِبِ مُوسَى (عليهم السَّلام)”[6].
إنَّ للاشتغالِ بالرواية أثَرَه عن صدقِ نيَّةٍ وإخلاصٍ محوريَّةً في تكوين مَلَكَات الفقاهةِ، وليس الاشتغال محمودًا ما لم يكن بسبر أغوارها والسِّياحة في ديارها مِن أوَّل مِثل البِحار إلى آخره، وفي رواية إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) أنَّه قَالَ: “حَدِيِثٌ تَدْرِيِهِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ حَدِيِثٍ تَرْويِهِ، وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْكُمُ فَقِيِهًا حَتَّى يَعْرِفَ مَعَارِيِضِ كَلَامِنَا، وَإنَّ الكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِنَا لَتَنْصَرِفُ عَلَى سَبعِينَ وَجْهًا لَنَا مِنْ جَمِيِعِهَا المَخْرَجُ”[7].
ولله در غوَّاص البِحارِ إذ قال في مقدمة جامعة الدُّرَر:
“أنّي كنت في عنفوان شبابي حريصًا على طلب العلوم بأنواعها، مولعًا باجتناء فنون المعالي من أفنانها فبفضل الله سبحانه وردت حياضها وأتيت رياضها، وعثرت على صحاحها ومراضها، حتّى ملأت كمّي من ألوان ثمارها، واحتوى جيبي على أصناف خيارها، وشربتُ من كلِّ منهل جرعةً روّيّةً وأخذت من كل بيدر حفنةً مغنيةً، فنظرتُ إلى ثمرات تلك العلوم وغاياتها، وتفكرتُ في أغراض المحصّلين وما يحثّهم على البلوغ إلى نهاياتها، وتأمّلتُ فيما ينفع منها في المعاد، وتبصرتُ فيما يوصل منها إلى الرشاد، فأيقنتُ بفضله وإلهامه تعالى أنَّ زلال العلم لا ينقع إلَّا إذا أُخذ من عينٍ صافيةٍ نَبَعَتْ عن ينابيع الوحى والإلهام، وأنَّ الحكمة لا تنجع إذا لم تُؤخذ من نواميس الدّين ومعاقل الأنام.
فوجدتُ العلم كلّه في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأخبار أهل بيت الرسالة الّذين جعلهم الله خزّانًا لعلمه وتراجمةً لوحيه، وعلمتُ أنَّ علم القرآن لا يفي أحلام العباد باستنباطه على اليقين، ولا يحيط به إلّا من انتجبه الله لذلك من أئمّة الدّين، الّذين نزل في بيتهم الرّوح الامين. فتركتُ ما ضيّعتُ زمانًا من عمري فيه، مع كونه هو الرّائج في دهرنا، وأقبلتُ على ما علمتُ أنّه سينفعني في معادي، مع كونه كاسدًا في عصرنا، فاخترتُ الفحص عن أخبار الأئمّة الطاهرين الأبرار (سلام الله عليهم)، وأخذتُ في البحث عنها، وأعطيتُ النَّظر فيها حقّه، وأوفيتُ التّدرّب فيها حظّه.
وَلَعمري لقد وجدتُها سفينةَ نجاةٍ مشحونةً بذخائر السعادات، وألفيتها فلكًا مُزينًا بالنيرات المنجية عن ظلم الجهالات، ورأيت سبلها لائحةً، وطرقها واضحةً، وأعلام الهداية والفلاح على مسالكها مرفوعةً، وأصوات الدّاعين إلى الفوز والنجاح في مناهجها مسموعةً، ووصلتُ في سلوك شوارعها إلى رياض نضرة، وحدائق خضرة، مزيّنةً بأزهار كلّ علمٍ وثمارِ كلّ حكمةٍ، وأبصرتُ في طيّ منازلها طرقًا مسلوكة معمورة، موصلةً إلى كلّ شرف ومنزلة. فلم أعثر على حكمة إلّا وفيها صفوها، ولم أظفر بحقيقة إلّا وفيها أصلها”.
تُكَوِّنُ هذه النصوص الشريفة وغيرها ظهورَ (رواة الحديث) الَّذين أُمِرنا بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة في المُحَدَّثِين المُفَهَّمين لعلو منازلهم عند الله تعالى بسبب روايتهم للحديث الشَّريف رواية عقل ودراية، وهذه درجةٌ ممنوعة عن غير الخبير بمعاريض كلامهم (عليهم السَّلام)، وهي خبرة لا تحصل لِمَن لا يشتغل بالحديث الشريف سبرًا لأغواره وجوسًا في دياره بإخلاص نيَّة وصدق سريرة.
ثُمِّ إنَّ للأمر بالإرجاع، وللمراد من (الحوادث الواقعة)، وللجمع في قوله (عليه السَّلام) دلالاتها المهمَّة، إلَّا أنَّ المقام مقام اختصار وإيجاز، وما وددتُ الخروج فيه عن محلِّ الكلام.
نسأله تعالى العزَّة والكرامة لفقهاء الإسلام وأن يُعرِّفنا مرجعيتهم الحُجَّة بالحقِّ.
وتِلْكَ سطورٌ وما يبنها سطور. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
وكتبه حامدًا شاكرًا
السَّيِّد محمَّد بن السَّيِّد علي العلوي
4 جمادى الأولى 1445 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………………
[1] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 484
[2] – اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – الشيخ الطوسي – ج 1 – ص 6
[3] – الآية 69 من سورة العنكبوت
[4] – منية المريد – الشهيد الثاني – ص 148 – 150
[5] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) – ص 342
[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 268
[7] – معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – ص 2