المَوْقِفُ الرَّاجِحُ مِنْ مَرويِّ “فَاضْربُوا بِهِ عُرْضَ الحَائِطِ”

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين

بحثتُ منذ زمن عن رواية طالما سمعناها تتردَّد ويكتبها العلماء في كتبهم ويعتمدونها في بحوثهم العالية، وهي المنسوبة إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “إذا جاءكم عنِّي حديثٌ، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط”، ولم أجدها في شيء من كتبنا ومجاميعنا الحديثية المعتبرة. إلى أنَّ راسلني العزيز صاحب السَّماحة الشَّيخ أحمد نجل العلَّامة الشَّيخ عبد الحسن مِن آل نصيف الجمري البحراني (حماه الله تعالى) ليخبرني بعثوره عل الرواية في مقدمة كتاب (التبيان) لشيخ الطائفة الطُّوسي (نوَّر الله مرقده الشريف).

رجعتُ إلى الكتاب المذكور ووجدتُ الشَّيخ يذكرها في سياق مجموعة من الروايات التي تأمر باتخاذ القرآن الكريم أصلًا ومرجعًا مُفَسِّرًا ومُبَيِّنًا ومُفَهمًا.. يُقاسُ عَليهِ، ويُحتَكَمُ عنده. قال (نوَّر الله مرقده الشَّريف):

“وقال في قومٍ يذمهم حيثُ لم يَتَدَبَّرُوا القُرآنَ، ولم يَتَفَكَّرُوا في معانيه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وقال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله). “إنِّي مُخَلِّفٌ فيكم الثقلين: كتابَ الله، وعِتْرَتي أهلَ بيتي” فَبَيَّنَ أنَّ الكتابَ حُجَّةٌ، كَمَا أنَّ العِتْرَةَ حُجَّةٌ. وكيف يكونُ حُجَّةً ما لا يُفْهَمُ بِهِ شَيءٌ؟

وَرُويَ عنه (عليه السَّلام) أنَّه قال: “اذا جَاءَكُم عَنِّي حَديثٌ، فاعرضُوه على كتاب الله، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فاقْبَلُوه، ومَا خَاَلفه فاضْرِبُوا بِهِ عُرْضَ الحَاِئِط”، وَرُويَ مِثْلُ ذلك عن أئمتنا (عليهم السَّلام)، وكيف يُمْكِنُ العَرْضُ على كِتَابِ اللهِ، وهو لا يُفْهَمُ بِهِ شَيءٌ؟”[1].

استغربتُ عدم وجودها في غير مقدمة التفسير لشيخ الطائفة (نوَّر اللهُ مرقده الشَّريف)، ولا في شيء من كتبنا الحديثية المعتبرة، كما ولم يثبتها أصحاب المجاميع بالرغم من إفرادهم أبوابًا خاصَّة لعناوين مثل: أبواب (الرد إلى الكتاب والسُّنَّة، وأنَّه ليس شيءٌ من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج النَّاس إليه إلَّا وقد جاء فيه كتاب أو سنَّة)، و(اختلاف الحديث)، و(الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب) كما في الكافي، و(وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل به) كما في الوسائل، (عِلل اختلاف الأخبار وكيفية الجمع بينها والعمل بها) كما في البحار، وغيرها..

إنَّ لتوقُّفي عند هذا النص سببًا جوهريًّا أذكره لاحقًا إن شاء الله تعالى بعد التعرُّض لأمور؛ أوَّلِها:

التعبيرُ بـ(رُويَ):

نُنَبِّهُ أوَّلًا إلى أنَّ مَن يقول بصحَّة أو اعتبار الكتب الأربعة وكُتب المتقدِّمين من الأعلام فهو لا يقول بصحِّة أو اعتبار كلِّ ما كتبوه في كتبهم، وإنَّما موضوع القطع بالصِّحة أو الاعتبار هو ما أثبتوه، والإثبات أخصُّ مِن مجرَّد التدوين والذكر.

لقد اشتهر بين الأعلام التوقف في الأقوال والمرويات المُسنَدة إلى تعابير مثل: رُويَ، أو: قِيلَ؛ لبنائهم على كونِّها مُضَعِّفة لما يُسنَدُ إليها، وإنَّما تُذكَر لأسباب، منها الإشعار بوجود حديث أو رأي هو هذا. ومنها أن يكون مضمون المروي موافقًا لما أثبته صاحِبُ المُصنَّف، ونحن في المقام نذهب إلى هذا الاحتمال الثَّاني؛ إذ أنَّ “فاضْرِبُوا بِهِ عُرْضَ الحَاِئِط” تشترك في (إسقاط الاعتبار) مع مثل: “فالذي جاءكم به أولى به”، و”فدعوه”، و”فهو زخرف”، و”فهو باطل”، بل وحتَّى “يُرجئه حتَّى يلقى من يُخبره”، وغيرها من التعابير الدَّالة على إسقاط الاعتبار في ظرف عدم الفهم أو الحكم بمخالفة المروي للكتاب أو السُّنَّة المُحكمة، فالرَّاجح عند النظر القاصر هو توجُّه عناية الشَّيخ (طيَّب الله مرقده الشريف) إلى خصوص الجامع دون التفصيل بملاحظة الألفاظ وما تدل عليه، وهذا موافق لإيراده لرواية لم تثبت عنده مُنبِّهًا على ذلك بِلفظ: (رُويَ).

تنوع السلوك تجاه الروايات المُشكِلة أو المخالفة للكتاب الكريم والسُّنَّة المُحكمة بحسب فهم وحكم الفقيه:

رواية الميثمي: (نوردها بتمامها لما تشتمل عليه من فوائد عظيمة)

قال في عيون أخبار الرِّضا (عليه السَّلام): حَدَّثنا أبي ومُحمَّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قالا: حَدَّثنا سعدُ بن عبد الله، قال: حدَّثني محمَّد بن عبد الله المسمعي، قال: حَدَّثني أحمد بن الحسن الميثمي، أنَّه سأل الرضا (عليه السَّلام) يومًا وقد اجتمع عنده قومٌ من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في الشيء الواحد.

فقال (عليه السَّلام): “إنَّ الله عزَّ وجَلَّ حَرَّمَ حَرَامًا، وأحَلَّ حَلالًا، وفَرَضَ فَرائِضَ. فَمَا جَاءَ في تَحْليلِ مَا حَرَّمَ اللهُ، أو تَحْريمِ مَا أحَلَّ اللهُ، أو دَفْعِ فَريضَةٍ في كِتَابِ الله رَسْمُهَا بين قَائِمٍ بِلا نَاسِخٍ نَسَخَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ مِمَّا لا يَسَعُ الأخْذُ بِهِ؛ لأنَّ رَسُولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) لمْ يَكُنْ لِيُحَرِّمَ مَا أحَلَّ اللهُ، ولا لِيُحَلِّلَ ما حَرَّمَ اللهُ، وَلا لِيُغَيِّرَ فَرايضَ اللهِ وأحْكَامَه في ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعًا مُسَلِّمًا مُؤدِّيًا عَنِ اللهِ وَقَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ)، فَكَانَ مُتَّبِعًا لله، مُؤدِّيًا عن اللهِ مَا أمَرَهُ بِهِ مِنْ تَبليغِ الرِّسَالَة.

قُلتُ: فإنَّه يَرِدُ عَنكُمُ الحَديثُ في الشيء عن رسول (صلَّى الله عليه وآله) مِمَّا ليس في الكِتَابِ، وهو في السُّنَّةِ، ثُمَّ يَرِدُ خِلافُهُ!

فقال (عليه السَّلام): وَكَذَلِكَ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) أشياء نَهيَ حَرَامٍ فَوَافَقَ في ذَلِكَ نَهيُهُ نَهيَ اللهِ، وَأمَرَ بأشيَاء فَصَارَ ذَلِكَ الأمْرُ وَاجِبًا لازِمًا كَعدل فَرايضِ الله تعالى، وَوَافَقَ في ذَلِكَ أمْرُهُ أمْرَ الله تَعَالى.

فَمَا جَاءَ في النَّهي عن رسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) نَهيَ حَرَامٍ جَاءَ خِلافُه لَمْ يَسَعِ استعمالُ ذلك، وكذلك فِيمَا أمَرَ بِهِ؛ لأنَّا لا نُرَخِّصُ فِيمَا لَمْ يُرَخِّصْ فيه رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) ونأمُرْ بِخِلَافِ مَا أمَرَ رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) إلَّا لِعِلَّةِ خَوفِ ضَرُورَةٍ، فأمَّا أنْ نَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَ رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله)، أو نُحَرِّمَ ما اسْتَحَلَّ رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) فلا يكون ذلك أبدًا؛ لأنَّا تَابِعُونَ لِرَسُول الله (صلَّى الله عليه وآله) مُسَلِّمُونَ لَهُ كَمَا كانَ رَسُولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) تَابِعًا لأمْرِ رَبِّهِ عزَّ وجَلَّ مُسَلِّمًا، وقال عزَّ وجَلَّ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).

وإنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) نَهَى عن أشْيَاء ليس نهي حَرَامٍ، بَل إعَافَةٍ وكَرَاهَة، وَأمَرَ بِأشْيَاء ليس فَرْض ولا واجب، بَلْ أَمْرَ فَضْلٍ ورجْحَان في الدِّين.. رَخَّصَ في ذَلِكَ لِلمَعْلُولِ وغَيرِ المَعْلُولِ، فَمَا كانَ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نَهي إعَافَةٍ، أو أمْر فَضْلٍ، فذلك يَسَعُ اسْتِعْمَالِ الرُّخْصَة فيه.

إذَا وَرَدَ عليكم عَنَّا فِيهِ الخبران باتِّفَاق يَرْويِهِ مَنْ يَرْويِهِ في النَّهي ولا يُنْكِرهُ، وَكَان الخَبَرَانِ صَحيحينِ مَعْرُوفَينِ باتِّفَاقِ النَّاقِلَةِ فِيهِمَا يَجِبُ الأخذُ بِأحَدِهِمَا، أو بِهِمَا جَميعًا، أو بِأيِّهِمَا شِئْتَ وَأحْبَبْتَ مُوَسَّعٌ ذَلِكَ لَكَ مِنْ بَابِ التَّسْليمِ لِرَسُولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) والرَّدِّ إليه وإلَينَا، وَكَانَ تَارِكُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ العِنَادِ والإنْكَارِ، وَتَرْكِ التَّسْليمِ لِرَسُولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) مُشْرِكًا بالله العظيم.

فَمَا وَرَدَ عَليكُم مِنْ خَبَرينِ مُخْتَلِفَينِ فاعرُضُوهُمَا على كِتَابِ اللهِ؛ فَمَا كَانَ في كِتَابِ اللهِ مَوجُودًا حَلالًا أو حَرَامًا فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الكِتَابَ، وَمَا لمْ يَكُنْ في الكِتَابِ فاعرُضُوهُ عَلى سُنَنِ النَّبيِّ؛ فَمَا كَانَ في السُّنَّةِ مَوجُودًا مَنهيًّا عَنْهُ نَهيَ حَرَامٍ، أو مَأمُورًا بِهِ عَن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أمْرَ إلزَامٍ فاتَّبِعُوا ما وَافَق نَهيَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأمْرَه، وما كانَ في السُّنَّة نَهي إعَاَفةٍ أو كَرَاهَةٍ، ثُمَّ كَانَ الخَبَرُ الآخر خِلافَهُ فَذَلِك رُخْصةٌ فِيمَا عَافَه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وكَرِهَهُ وَيُحَرِّمه؛ فَذَلِكَ الذي يَسَعُ الأخذُ بِهِمَا جَميعًا، أو بِأيِّهِمَا شِئْتَ وَسِعَكَ الاخْتيَارُ مِنْ بَاب التَّسْليمِ وَالاتِّبَاعِ والرَّدِ إلى رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله).

وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ في شيء مِنَ الوُجُوه فَرُدُّوا إلينَا عِلْمَهُ؛ فَنَحْنُ أولَى بِذَلِكَ، وَلا تَقُولُوا بِآرَائِكُم، وَعَليكُم بِالكَفِّ وَالتَّثَبُتِ وَالوُقُوفِ وَأنْتُم طَالِبُونَ بَاحِثُونَ حَتَّى يَأتِيَكُمُ البَيَانُ مِنْ عِنْدِنَا[2].

يبتني الكلام على أمرين:

الأول: عدم الإذن بغير التَّرك (لم يَسَعْ استعمَال ذلك) حتَّى لو كان المَورِدُ مَورِدَ تحليلِ حَرَامٍ أو تَحْريمِ حَلالٍ.

الثَّاني: أنَّ الحكم على الحديث مِن جهة الموافقة أو المخالفة للكتاب العزيز أو السُّنَّة المُحكمة إنَّما هو بِحَسَبِ نَظَرِ الفقيه، لا بحسب الواقع ونفس الأمر بطبيعة الحال.

إذا كانت المخالفةُ للكتاب العزيز أو السُّنَّة المُحكمة واقعيةً؛ أي أنَّ المرويَّ مُخَالِفٌ دلالةً وقصدًا في الواقع حُذِف ونُزِّهَتْ عَنْهُ الأصول والكتب الحديثية، وإن كان مخالِفًا في الواقع دلالةً لا قصدًا؛ كما في موارد التقيَّة وما نحوها، أُثبِتَ لجهة صدوره. غير أنَّ الواقِع ونفس الأمر محجوب عن العِباد، وإنَّما يقع عمل العاقل على وفق العلم العادي، وغايته رجاء مطابقته للواقع مع سلوك الطرق العلميَّة في الفهم والاستدلال، إلَّا في الضرورات الأعم من العقدية والفقهية وغيرها؛ فهي واقعية مستغنية عن الاستدلال والاستنباط.

إذا اتَّضح ذلك، قلنا: في النُّصوص الشريفة توصيفاتٌ للمرويات المخالفة للكتاب العزيز أو السُّنَّة المُحكمة، وأوامر لِمَن تثبت عنده المخالفة من أهل العرض والتثبُّت.

أمَّا التوصيفات، فمنها (الزخرف)؛ كما في رواية أيوب بن الحر، قال: “سَمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يَقُولُ: كُلُّ شَيءٍ مَرْدُودٌ إلى كِتَابِ الله والسُّنَّةِ، وكُلُّ حَديثٍ لا يُوافِقُ كِتَابَ الله فَهُوَ زُخْرُفٌ[3]. ومنها (الباطل)؛ كما في حديث أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “مَا أتَاكُم عَنَّا مِنْ حَديثٍ لا يُصَدِّقُهُ كِتَابُ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ[4]، وغيرها ممَّا يُبيِّنُ فيه الإمام المعصوم (عليه السَّلام) حُكمَ المروي المخالف للكتاب والسُّنَّة؛ إمَّا الواقعي، أو المناسب للقطع بالمخالفة وإن لم يكن مخالِفًا في الواقع ونفس الأمر. فافهم رعاك الله تعالى.

ونُلحِق بالتوصيفات نفيهم لكون الحديث عنهم (عليهم السَّلام)، كما في قرب الإسناد؛ قال: جعفر، عن أبيه قال: “قرأتُ في كِتَابٍ لِعَليٍّ (عليه السَّلام) أنَّ رَسُولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ) قال: أنَّه سَيَكذُبُ عَليَّ كَاذِبٌ كَمَا كَذَبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَمَا جَاءَكُم عَنِّي مِنْ حَديثٍ وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ حَديِثي، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَليسَ مِنْ حَديِثِي[5]. وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “خَطَبَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّه فَأَنَا قُلْتُه، ومَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّه فَلَمْ أَقُلْه[6].

وأمَّا الأوامر، فمنها (دعوه، ولا تأخذوا به)؛ كما عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله): “إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُورًا، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّه فَخُذُوه، ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّه فَدَعُوه[7]، وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع، قال: “قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الكذَّابَةُ، وَسَتَكْثُرُ بَعْدِي، فَمَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فَإذَا أتَاكُم الحَديثُ عَنِّي فَاعْرضُوه على كِتَابِ الله وَسُنَّتِي، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي فَخُذُوا بِهِ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي فَلا تَأخُذُوا بِهِ“.

ومنها (التوقف والردُّ إليهم عليهم السَّلام)؛ كما في رواية الإمام الباقر (عليه السَّلام)، قال: “وإِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ عَلَيْه شَاهِدًا أَوْ شَاهِدَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّه فَخُذُوا بِه، وإِلَّا فَقِفُوا عِنْدَه ثُمَّ رُدُّوه إِلَيْنَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكُمْ”[8].

إنَّ مِثل هذا التعامل مع المرويات المخالفة للكتاب العزيز والسُّنَّة المُحكمة فيه من الأدب ما يناسِب الروايات الشريفة الواردة في التسليم للحديث وعدم الإنكار حتَّى في ما لا يُقبَل.

عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة بن حمران، قال: “كَانَ يُجَالِسُنَا رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِنَا، فَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ بِحَدِيثٍ إلَّا قَالَ: سَلِّمُوا. حَتَّى لُقِّبَ، فَكَانَ كُلَّمَا جَاءَ قَالُوا: قَدْ جَاءَ سَلَّمُ. فدخل حمران وزرارة على أبى جعفر (عليه السَّلام)، فقال: إنَّ رَجُلًا مِنْ أصْحَابِنَا إذا سَمِعَ شَيئًا مِنْ أحَادِيثِكُم قال: سَلِّمُوا، حَتَّى لُقِّبَ، وَكَانَ إذا جَاءَ قَالُوا: سَلِّمْ. فَقَالَ أبو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): قَدْ أفْلَحَ المُسَلِّمُونَ، إنَّ المُسَلِّمينَ هُمُ النُّجَبَاءُ[9].

وَعَنْ أبي عُبَيدَةَ الحَذَّاءِ، عَنْ أبي جَعْفَرٍ (عَليهِ السَّلامُ)، قال: سَمعْتُهُ يَقُولُ: “أمَا واللهِ إنَّ أحَبَّ أصْحَابِي إليَّ أوْرَعُهُم وَأفْقَهُهُم، وَأكْتَمُهُم بِحَديثِنَا، وإنَّ أسْوَأهُم عِنْدي حَالًا، وأمْقَتَهُم إليَّ الذِي إذَا سَمِعَ الحَديثَ يُنْسَبُ إلينَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَعْقِلْهُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ قَلبُهُ اشْمَأزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَرَ بِمَنَ دَانَ بِهِ، وَهُوَ لا يَدْرِي؛ لَعَلَّ الحَديثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ، وَإلينَا سُنِدَ، فَيَكُون بِذَلِكَ خَارِجًا مِنْ وَلايَتِنَا”[10].

وَعَنْ سُفيَانِ بِنِ السيط، قَالَ: قُلْتُ لِأبِي عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلامُ): “جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ إنَّ الرَّجُلَ لَيَأتِينَا مِنْ قِبَلِكَ فَيُخْبِرُنَا عَنْكَ بِالعَظيمِ مِنَ الأمْرِ، فَيُضَيق بِذَلِكَ صُدُورَنَا حَتَّى نُكَذِّبَهُ! قال: فقال أبو عبد الله (عليه السَّلام): أليْسَ عَنِّي يُحَدِّثُكُم؟ قال: قُلتُ: بَلَى. قَالَ (عليه السَّلام): فَيَقُولُ لِليلِ أنَّهُ نَهَارٌ، وَللنَّهَارِ أنَّهُ لَيلٌ؟! قال: فَقُلتُ له: لا. قال: فقال (عليه السَّلام): رُدَّهُ إلينَا؛ فإنَّك إنْ كَذَّبْتَ فَإنَّمَا تُكَذِّبُنَا”[11].

وَعَنْ أبي بَصيرٍ، عَنْ أبي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، أو عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام)، قَالَ: لَا تُكَذِّبُوا بِحَديثٍ أتَاكُم أحَدٌ؛ فَإنَّكُم لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ مِنَ الحَقِّ فَتُكَذِّبُوا اللهَ فَوقَ عَرْشِهِ”[12].

وَعَنْ عَليٍّ السّنَانِي، عَنْ أبي الحَسَنِ (عليه السَّلام) أنَّهُ كَتَبَ إليهِ فِي رِسَالَةٍ: “وَلَا تَقُلْ لِمَا بَلَغَكَ عَنَّا، أو نُسِبَ إلينَا: هَذَا بَاطِلٌ وَإنْ كُنْتَ تَعْرِفُهُ خِلَافَهُ؛ فَإنَّكَ لَا تَدْرِي لِمَ قُلنَا وَعَلَى أيِّ وَجْهٍ وَصِفَةٍ”[13].

نرى في رواية “فاضْرِبُوا بِهِ عُرْضَ الحَاِئِط” سلوكًا شاذًا عن سَمْتِ التأدُّب مع المرويات المخالفة للكتاب العزيز والسُّنَّة المُحكمة، وبالرغم مِن ذلك فإنَّ مِن جهة الخشية والورع عن السقوط في محذور التكذيب، فعلى تقدير صدورها عن أئمَّة الهُدى (عليهم السَّلام) فإنَّنا نحملها على التقيَّة وإظهار الشِّدَّة أمام الأعداء في التعامل مع الروايات التي يظهر منها مخالفة للكتاب العزيز. وإن لم يكن كذلك رددناه إلى السَّادة الأطهار (عليهم السَّلام) فنحن لا نملك الجرأة لضرب رواية عُرض الحائط! ولا أدري لِمَ تُترك روايات مثل (دعوه.. ردُوه إلينا) ويتزايد الإصرار على رفع راية (فاضربوا به عُرضَ الحائط) وكانَّه مُؤَمِّنٌ مِنْ شيء ما!

وكيف كان، فإنَّ مثالنا في هذا المقام وغيره من مقامات العلم مفخرة التشيُّع الفقيه المُحدِّث الشَّيخ يوسُف آل عصفور البحراني (نوَّر الله مضجعه)، وقد عرض له حديث لمْ يجد له وجهًا، فقال متأدِّبًا: “وبالجملة فالمقام محلُّ إشكال، ولا يحضرني الآن الجواب عنه، وحبس القلم عن ذلك أولى بالأدب”.

عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

7 شعبان 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………………………..

[1] – التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، الجزء1،  ص: 5

[2] – عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 22 – 24

[3] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 220 – 221

[4] – المصدر السابق

[5] – قرب الاسناد – الحميري القمي – ص 92

[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 69

[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 69

[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 222

[9] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) – ص 543

[10] – المصدر السابق ص557

[11] – المصدر السابق ص557-558

[12] – المصدر السابق 558

[13] – المصدر السابق

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.