بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
الاضطرار
مقالةٌ في مفهوم (التقيَّةِ) وحدود ممارستها
إنَّ من أشدِّ ما يؤلمُ الشيعةَ في زمن الغيبة ويعتصر قلوبَهم ما يقعون فيه من حَيرَةٍ في بعض المسائل التي يحتاجون فيها إلى كلمة فَصْلٍ من إمام هُدَىً تَرْتَفِعُ بِحَسْمِهَا التَرَدُّدات وتَنْتَفي الشُبهاتُ وتَتَرَاجَعُ الاجتهادات، فلا يبقى غير الصبح أبلج.
من تلك المسائل التي ما إن يستقرُّ الرأي فيها إلَّا وأعْقَبَ الاستقرارَ تيَّارٌ عاصِفٌ يُنقِضُ الغَزْلَ مِنْ بَعدِ قوَّة أنكاثًا مسألةُ (التقيَّة)؛ فإنَّ مَنْ يُنَادِي بِهَا ويُصِرُّ عليها يقف في مُعْتَنَقِهِ على أدلَّةٍ يراها في غاية الوضوح، ومِثْلُهُ صاحب أطروحة أنَّ الزمن اليوم ليس بزمن تقيَّةٍ، بل ومن هذا الفريق الثاني من يرى التقيَّة في هذا الزمن جريمة في حقِّ التشيُّع! وكلٌّ يُنَظِّرُ ويَضَعُ أدِلَّتَهُ أمَامَ مَواقِفِهِ.
إنَّ لهذه المشكلة تَعقُّدًا مِنْ جِهَتَين:
الأولى: إن صحَّ القول الأوَّل فإنَّ سلوكَ أصحاب القول الثاني مُؤثِّرٌ في الشيعة تأثيرًا مجموعيًا بحسب قوَّة وانتشار السلوك. وليس كذلك لو كان العكس.
فالنتيجة أنَّ سلوكَ من لا يقولُ بالتقية يتحمَّلُ المجموعُ مسؤولية تبعاته، ويأتي التعقُّد في صعوبة المناقشة حينها في أصل المُعتَنَق؛ إذ إنَّ السلوكَ فاعلٌ وقد انفلت ما يكون موضوعًا للتقية من جميع عُقُلِه وأمسى باعثًا فاعلًا لردود الأفعال التي يرى الفريق الأوَّل وجوب اتِّقائها.
الثانية: إنَّ مبدأ التقيَّة من المبادئ التي تتحقَّق بالتباني الفكري الداخلي، ويكون الحديث عنها في الملأ مُرجِّحًا لنقض غرضها.
بعد طول تفكير ونظر استقرَّ في النفس خيارُ الكتابة في هذه المسألة برجاء أن تكون مساهمةً في تجديد الفهم على أمل أن يتعقَّبه التباني المُغني عن طَرْقِ بَابَهَا، ولو لِفَترةٍ معقولةٍ مِنَ الزَمَنِ.
أسميتُ المقالةَ (الاضطرار)؛ وأريد من ذلك اضطراري للكتابة في (التقيَّة)؛ إذ إنَّ (التقيَّة)، كما أسلفتُ، من مسائل التباني الفكري والتي من المفترض أن تكون بذلك مُسْتَغنِيَةً عن الطرح العامِّ حفظًا للغرض. ولكن للزمانِ وأحداثِه أحكام نخضع لها كارهين. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
مِنَ الروايات الشريفة الأمِّ في المقام:
عن مُعَلَّى بن خُنيس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): “يا مُعَلَّى، اكتُمْ أمْرَنَا ولا تُذِعْهُ؛ فإنَّه مَنْ كَتَمَ أمْرَنَا ولم يُذِعْهُ أعَزَّهُ اللهُ في الدُّنيا، وجَعَلَهُ نُورًا بَينَ عَينيهِ في الآخِرَةِ يَقُوُدُهُ إلى الجَنَّةِ. يا مُعَلَّى، مَنْ أذَاعَ حَديثَنَا وأمْرَنَا ولم يَكْتُمْها أذَلَّهُ اللهُ بِهِ في الدُّنيَا، ونَزَعَ النُّورَ مِنْ بينِ عَينيهِ في الآخِرَةِ، وجَعَلَهُ ظُلْمَةً تَقُودُهُ إلى النَّارِ. يا مُعَلَّى، إنَّ التقيَّة دِينِي ودين آبَائي، ولا دِينَ لِمَنْ لا تَقيَّةَ لَهُ. يا مُعَلَّى، إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يُعْبَدَ في السرِّ كمَا يُحِبُّ أنْ يُعْبَدَ في العَلانِية. يا مُعَلَّى، إنَّ المُذيعَ لأمْرِنا كالجَاحِدِ بِهِ“[1].
رواية مُعلَّى بن خُنيس من أمَّهات المسائل في التقية، وتشتمل على أمور:
- كتمان أمر أهل البيت (عليهم السَّلام) والنهي عن إذاعته.
الكتمان هو جواز الحديث بشرط عدم الإذاعة، أي أن يُبقي الشيعةُ أمرَهم بينهم في مجالسهم الخاصَّة، وهو ما ورد عن بكر بن محمَّد، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: قال لفُضَيل: “تجلسون وتُحَدِّثُون؟
قال: نعم، جُعِلْتُ فداك.
قال (عليه السَّلام): إنَّ تِلكَ المَجَالِسَ أُحِبُّهَا، فأحيوا أمرنا يا فُضَيل، فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أحْيَا أمْرَنَا. يا فُضَيل، مَنْ ذَكَرَنَا، أو ذُكِرْنَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مِنْ عَينِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُبَابِ، غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَهُ ولو كانَتْ أكثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ”.
فبقرينة النهي عن الإذاعة يتعين أن يكون الجلوس والتحديث في مجالس خاصَّة يُكتم فيها الحديثُ عن خارجها. وعلى فرض تحقُّق الإذاعة فعلًا من جمهور الشيعة، ففرضان:
الأول: أن يكون في نفس الكتمان وعدم الإذاعة خصوصية وفضيلة، فيتعين، ولا أثر لكون الأمر مُذاعًا أو ذائِعًا، أو لا. وفيه:
- التكليف بإعادة الأمر إلى الكتمان.
- عدم التكليف.
الثاني: أن يسقط النهي عن الإذاعة بتحقُّقها، لعدم الخصوصية.
هذا فيما لو حملنا رواية مُعلَّى بن خنيس على الإطلاق الزماني، ولكن لا يصحُّ الحمل على غير الإطلاق الزماني، والوجه في ذلك أنَّ الإذاعة مُفسِدةٌ للكتمان متى ما اقتضته الظروف؛ فهي وجود مسترسل يصعب حدُّه بقرار الكتمان وعدم الإذاعة.
- ما يترتب في الدنيا والآخرة على الكتمان وعدم الإذاعة، وما يترتب فيهما على الإذاعة وعدم الكتمان.
الظاهر أنَّ الأثر الدنيوي على الفرد من جهة انعكاس الظرف العام عليه؛ فإنَّ أثَرَ الإذاعةِ ينعكِسُ على من في حدود استيعابها.
- التقيَّة دينُ الإمام الصادق ودينُ آبائه (عليهم السَّلام).
لا شبهةَ في أنَّ التقية لا تعني إخفاء التشيُّع؛ فالإمام الصادق (عليه السَّلام) معروفٌ عند القاصي والداني، وكذا أصحابه، فهو (عليه السَّلام) لا يُنكرهم، ولا هم يخفون تشيعهم، وإن كان الحرص منه (عليه السَّلام) ومنهم على إبقاء العلاقة باردة لا صخب فيها أمام الناس، ومن ذلك ما عَنْ حَمَّادِ بْنِ وَاقِدٍ اللَّحَّامِ، قَالَ: “اسْتَقْبَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) فِي طَرِيقٍ فَأَعْرَضْتُ عَنْه بِوَجْهِي ومَضَيْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْه بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي لأَلْقَاكَ فَأَصْرِفُ وَجْهِي كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ.
فَقَالَ (عليه السَّلام) لِي: رَحِمَكَ اللَّه. ولَكِنَّ رَجُلاً لَقِيَنِي أَمْسِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وكَذَا فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه؛ مَا أَحْسَنَ ولَا أَجْمَلَ”[2].
وفي المحاسن، عن داود الرقي، ومُفَضَّل، وفُضَيل، قال: “كُنَّا جَمَاعَةً عند أبي عبد الله (عليه السَّلام) في منزله يُحَدِّثُنَا في أشياء، فلمَّا انصَرَفْنَا وَقَفَ على باب مَنْزِلِهِ قَبْلَ أنْ يَدْخُل، ثُمَّ أقْبَلَ علينا، فَقَالَ: رَحِمَكُمُ اللهُ؛ لا تُذيعُوا أمْرَنَا، ولا تُحَدِّثُوا بِهِ إلَّا أهْلَهُ؛ فإنَّ المُذيعَ عَلينَا سِرّنا أشَد عَلينا مَؤنَةً مِنْ عَدوِّنَا.. انْصَرِفُوا رَحِمَكُمُ اللهُ، ولا تُذيِعُوا سِرَّنَا”[3].
وفيه عن أبي بصير، قال: “سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن حديث كثير، فقال (عليه السَّلام): هل كَتَمْتَ عليَّ شيئًا قَطُّ؟
فبقيتُ أتذكر، فلمَّا رأى ما بي، قال: أمَّا ما حَدَّثْتَ بِهِ أصْحَابَكَ فَلا بَأس، إنَّمَا الإذَاعَةُ أنْ تُحَدِّثَ بِهِ غيرَ أصْحَابِكَ”[4].
إنَّه، وبضمِّ جملة من الأخبار الآتية، نخلصُ إلى أنَّ التقيَّة هي الاحتراز وأخذ الحيطة والحذر من الإصابة بضرر ممَّن يتوقَّع منه الإضرار عند التعرُّض له باستفزاز أو ما شابه من دواعي المواجهة وإحداث السوء، وهذا موافقٌ للمعنيين اللغوي والاصطلاحي للتقيَّة، فقد جاء في تاج العروس أنَّ التقيَّة هي الحذر والحيطة من الضرر[5]، وفي كتابه (التقية) قال الشَّيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله تعالى) بأنَّ المراد منها هو “التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ”[6].
إذن؛ لشهرة الإمام المعصوم (عليه السَّلام) بعقديته، ولأنَّه مصدر قلقٍ لكبار القوم، فإنَّهم بطبيعة الحال يتحرَّون أخباره ويدسُّون العيون في محيطه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولا يُعقل، والحال هذه، أن لا يُعرَف أصحابه واتباعه، بل ومن يميلون إليه.
بناءً على هذه المعطيات يتحصَّل لنا أنَّ التقيَّة ليست إخفاء التشيع، إلَّا لمن تشيَّع ويُعرَفُ بغير ذلك، وإنَّما هي الابتعاد عن إثارة واستفزاز من يُتوقَّع منه الضرر. وسوف يتأكَّد هذا المبدأ قريبًا إن شاء الله تعالى.
- المصلحة في عبادة السر.
تقرَّر في محلِّه أنَّ الله تعالى خيرٌ محض، فما يُحبُّه سبحانه وتعالى خيرٌ وفيه المصلحة.
إنَّ الأصل في الدين من جهة التبليغ هو أن يصل إلى جميع الناس وأن يُدعى له الخلائق، وقد قال جلَّ في عُلاه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[7]، وقال في يوم الغدير آمرًا رسوله الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[8].
هذا وقد قال تبارك ذكره من قبل (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[9]. فالخير إذن في نشر الدين وتبليغه، وهذا ما يحبُّه الله سبحانه.
غير أنَّ المخاطر إذا أحدقت تقطرُ الشرورَ من نِصَالِ أهل الجحود، وكان الزمنُ زمنًا نُهِبَ فيه تُراثُ أهل البيت وأئمة الهدى (عليهم السَّلام)، وقد أغمدوا فيه سيوفهم إلى أن يأذن الله الملك الحق، فإنَّ ما يُحبُّه سبحانه ظاهرًا، يُحبُّه حينها سِرًا؛ إذ إنَّ التزاحمَ قَد وَقَعَ، وظهر الصلاح في إقامة صُلب الهُدنة.
جاء في المحاسن عن حبيب بن بشير، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): سمعتُ أبي يقول: “لا والله ما على الأرض شيءٌ أحبُّ إليَّ مِنَ التقية! يا حبيبُ، إنَّه مَنْ كانَتْ له تَقيَّةٌ رَفَعَهُ اللهُ.. يا حبيبُ، مَنْ لم يَكُنْ له تَقيَّةٌ وَضَعَهُ اللهُ.. يا حبيبُ، إنَّما النَّاسُ هُمْ في هُدْنَةٍ، فَلَو قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا”[10].
أمَّا الهُدْنَةُ فهي “المصالحة مع المخالفين والمنافقين، وعدم جواز منازعتهم”[11].
وأمَّا قوله (عليه السَّلام): “فلو قد كان ذلك” أي: ظهور القائم (عليه السَّلام)، وقوله: “كان هذا” أي: ترك التقية.
وفي الكافي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، فَقَالَ لَه حَكَمٌ السَّرَّاجُ: “مَا تَرَى فِيمَنْ يَحْمِلُ السُّرُوجَ إِلَى الشَّامِ وأَدَاتَهَا؟
فَقَالَ (عليه السَّلام): لَا بَأْسَ؛ أَنْتُمُ الْيَوْمَ بِمَنْزِلَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله)، إِنَّكُمْ فِي هُدْنَةٍ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُبَايَنَةُ حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا إِلَيْهِمُ السُّرُوجَ والسِّلَاحَ”[12].
وقال الشَّيخ غفاري: ” قوله: (بمنزلة أصحاب رسول الله) يعنى بعد وفاته (صلَّى الله عليه وآله وسلم) واستقرار أمر الخلافة، ويبينه قوله: (إنَّكم في هدنة) أي في سكون ومصالحة”[13].
وفيه، عن أبي شبل، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) في حديث، قال: “واللَّه مَا تُقْبَلُ الصَّلَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ، ولَا الزَّكَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ، ولَا الْحَجُّ إِلَّا مِنْكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّه عَزَّ وجَلَّ؛ فَإِنَّكُمْ فِي هُدْنَةٍ. وأَدُّوا الأَمَانَةَ، فَإِذَا تَمَيَّزَ النَّاسُ فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ كُلُّ قَوْمٍ بِهَوَاهُمْ وذَهَبْتُمْ بِالْحَقِّ مَا أَطَعْتُمُونَا؛ ألَيْسَ الْقُضَاةُ والأُمَرَاءُ وأَصْحَابُ الْمَسَائِلِ مِنْهُمْ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ (عليه السَّلام): فَاتَّقُوا اللَّه عَزَّ وجَلَّ، فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا هَاهُنَا وهَاهُنَا، وإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ حَيْثُ أَخَذَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ اخْتَارَ مِنْ عِبَادِه مُحَمَّدًا (صلَّى الله عليه وآله) فَاخْتَرْتُمْ خِيَرَةَ اللَّه، فَاتَّقُوا اللَّه وأَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى الأَسْوَدِ والأَبْيَضِ، وإِنْ كَانَ حَرُورِيًّا وإِنْ كَانَ شَامِيًّا”[14].
وفي شقشقة أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، قال: “فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْبًا..”[15].
- الإذاعة معصية جحود.
اتَّضح أنَّ الإذاعة ليست أن يكون الرجلُ معروفًا بتشيعه، وإنَّما هي أن يُصِرَّ على إذاعة الأمر بما يستعدي به المخالفين أو يثير فيهم ما يضرُّ بالشيعة، فردًا أو جماعةً.
إنَّ الإذاعة المقصودة هي، بعد ما مرَّ وما سيأتي، إنكارٌ بعد عِلْمٍ، وحُكْمُها الحُكْمُ في قولِه تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[16]، فهي اجتهادٌ في قبال علمٍ عن نصوص واضحة.
الآثار الوخيمة للإذاعة:
روى في الكافي بسنده، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) يَقُولُ: “يَا ثَابِتُ، إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ كَانَ وَقَّتَ هَذَا الأَمْرَ فِي السَّبْعِينَ، فَلَمَّا أَنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَأَخَّرَه إِلَى أَرْبَعِينَ ومِائَةٍ، فَحَدَّثْنَاكُمْ فَأَذَعْتُمُ الْحَدِيثَ فَكَشَفْتُمْ قِنَاعَ السَّتْرِ[17]! ولَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَه بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا عِنْدَنَا.. ويَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَه أُمُّ الْكِتَابِ.
قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، فَقَالَ: قَدْ كَانَ كَذَلِكَ”[18].
بيان:
فرق جوهري في بعض القضايا الإسلامية ووظيفة المؤمنين حيالها بين زمن الحضور وزمن الغيبة؛ فهناك منها ما يكون حُضُورُ الإمَامِ (عليه السَّلام) وتَشَخُّصُهُ في الخارج مأخوذًا في الموضوع، أي أن يكون الأمر المعين مع حضور الإمام (عليه السَّلام)، فلا يثبت الحكم في حال الغيبة. ونفس الحضور المبارك للإمام (عليه السَّلام) قد لا يكون سببًا لبروز وفعلية الحكم في الخارج ما لم يكن مبسوط اليد؛ ومن ذلك خروج الإمام الحسين (عليه السَّلام) للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ ذلك معلَّقٌ على تقلُّده (عليه السَّلام) زمام الخلافة الظاهرة المشهورة، ويدل عليه ما كتبه في وصيته لأخيه محمَّد المعروف بابن الحنفية، إذ قال: “وَأَنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِرًا، وَلا بَطِرًا، وَلا مُفْسِدًا، وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي (صلَّى الله عليه وآله). أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِب (عليهما السَّلام)، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللهُ أَوْلى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ الْقَومِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمينَ”[19]؛ حيث إنَّ خروجه إلى خصوص العراق كان، في ظاهره، بناءً على الكتب التي وصلته من الكوفة بالبيعة.
خاطب (عليه السَّلام) القوم عندما أوقفه الحر الرياحي، فقال: “أيُّها النَّاسُ، إنِّي لم آتِكُم حتَّى أتتني كُتُبُكُم وقَدِمَتْ عليَّ رُسُلُكُم؛ أنْ أقْدِمْ علينَا فإنَّه ليس لنا إمام، لعلَّ الله أنْ يَجْمَعَنَا بِكَ على الهُدَى والحَقِّ. فإنْ كُنْتُم على ذلِكَ فَقَد جِئْتُكُم، فأعْطُونِي مَا أطْمَئِنَّ إليهِ مِنْ عُهُودِكُم ومَوَاثِيقِكُم، وإنْ لم تَفْعَلُوا وكُنْتُم لِمَقْدَمِي كَارِهينَ انْصَرَفْتُ عَنْكُم إلى المَكَانِ الذي جِئْتُ مِنْهُ إليكُم”[20].
ومن ذلك القول باستمرار تبليغ الولاية استنادًا إلى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ)، والحال أنَّه لا بدَّ من إحراز جريان الوظيفة في غير النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وإن جرت في الأئمة (عليهم السَّلام) فلا بدَّ من إحراز جريانها في غيرهم، وإلَّا فقد يكون هذا النوع من التبليغ مأخوذًا فيه حضور المعصوم (عليه السَّلام)، أو أنَّه مناط به دون غيره.
مسألة الإطلاق الزماني:
روى في المحاسن بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) في قول الله (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ)، فقال: “أما واللهِ ما قتلوهم بالسيف، ولكنْ أذَاعُوا سِرَّهم وأفشوا عليهم فَقُتِلُوا”[21].
وفيه بسنده عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “مَنْ أذَاعَ عَلينَا شَيئًا مِنْ أمْرِنَا فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَنَا عَمْدًا، وَلَمْ يَقْتِلْنَا خَطأ”[22].
قال بعضٌ بأنَّ محذورَ الإذَاعَةِ هو وجود الإمام (عليه السَّلام) وتعريضه للأخطار بالإذاعة عليه، وهذا واضح من رواية أبي بصير في تفسير الإمام الصادق (عليه السَّلام) لقوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ).
الجواب:
لكلِّ كيانٍ جهة أو جهات تحافظ على بقائه واستمراره متشخِّصًا، وقد تكون تلك الجهةُ رأسَ الكيانِ وقيادته دون أيِّ شيءٍ آخر، وقد تكون أدبياته وفكره وثقافته في نفوس الناس من المنتمين إليه وغيرهم، وقد تكون كلاهما، أو غير ذلك مثل الأصول المالية، أو العلاقات مع جهات متنفذة.. أو غير ذلك ممَّا يحافظ على وجود الكيان وبقائه متشخصًا أو فاعلًا.
إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ قَتْلَ الأنبيَاءِ والأوصيَاءِ جرمٌ عظيمٌ لا يجازى فاعله إلَّا بعذاب لا يعلمه غير الله تبارك ذكره، ولكنَّ رسالة النبي لا تذهب بقتلِه أو قتل وصيِّه؛ والوجه في ذلك أنَّها موجودة في وجدان معتنقيها وعقول فقهائها، وبالتالي فإنَّ الإذاعة تضرُّ بالرئيس عند تصاعد وتيرة المواجهة التي تُحدثها، ومن بعده فإنَّها تضرُّ بالرسالة.
ألا ترى اليوم كيف أنَّ إبليس الرجيم والشياطين قد سلكوا مسلكَ خُبثٍ غير مسبوق في حربهم ضدَّ التوحيد ودين الله سبحانه وتعالى؟
فهم اليوم يشعلون نيران الشبهات في أصول الدين وفروعه، ويحاربون الدين بالدين بعد أن عرفوه وانكشفت لهم أسراره ومعاقد منعته.
ردُّ اشتباهٍ مُحْتَمل:
كثيرًا ما نسمع مقولة أنَّ من يكون صاحبَ دينٍ صحيحٍ وقوي، لا يخاف الشبهات ولا يهاب الإشكالات.
أقول: هذه مغالطة خبيثة قد وقع في شراكها كثيرون من الطيبين وأصحاب النوايا الحسنة. وبيان ذلك:
إنَّ الدين في مبادئه ومسائله مثل أيِّ علم من العلوم؛ يَعرِفُه العامَّةُ على نحو الإجمال، وفي تفاصيله يرجعون لمن حصَّل مقدماته ودرس مبانيه.
قد يرجعُ الإرشادُ الطبيُّ بِتَنَاول المريض لمضادٍّ حيوي إلى مجموعة من المقدمات والمسائل التي ما لم يضبطها الطبيب أو طالب الطب فإنَّه لن يفهم، مثلًا، ضرورةَ تحمُّل المريض للأعراض الجانبية المترتبة على استعماله للمضادِّ الحيوي، والبلاء أن يمتنع المريض عن أخذ الدواء ما لم يقتنع بكون الدواء المناسب، وعندما لا يجد الجواب من الطبيب فإنَّه يهاجم الطب والأطباء!
من السهل أن يوجِّه أيُّ جاهل ما يتوهمه إشكالًا على الطب أو على الطبيب بتركيزه على الأعراض الجانبية أو ما لا يفهمه من الدواء، وحينها لن يكون الطبيب، غالبًا، في غير موقع الخسارة أمام إثارات الجاهل، وقد اشتهرت مقولة: ما جادلني عالمٌ إلَّا وغلبتُه، وما جادلني جاهلٌ إلَّا وغلبني.
الحاصل هو أنَّ الحالة الثقافية العالمية جرَّأتْ جماهيرَ العامَّة على الأديان بعد أن أسكنت في أذهانهم أنَّها عِصِيٌّ ومشانقُ بيد رجال الدين لقيادة الناس وقسرهم على ما يريدون ليبقوا أوصياء على رقابهم، وأنَّ ما يروجُّ له هؤلاء ليس هو الدين، ولكنَّه ما يريدونه أن يكون دينًا!
لذا، سَهُلَ أن يُشاع بين الناس مبدأ أن لا تعتنق شيئًا باسم الدين قبل أن تسأل عنه وتقتنع به.
وهذا بالفعل ما استقرَّ في ثقافة الكثير من المجتمعات، وها نحن نرى السؤال عن كلِّ شيء من كلِّ أحد، دون مراعاة لا لتخصًّص ولا لضرورة تحصيل مقدمات العلم، سواء في التفسير أو في الحديث أو في الرجال، أو أصول الفقه، أو الفقه، أو غير ذلك ممَّا يدخل في المنهج التحصيلي لطلبة العلم في الحوزات والمدارس العلمية الشريفة.
عندما يسأل العامَّةُ فإنَّهم يريدون جوابًا بـ(نعم أو لا)، أو في جملة واحدة مباشرة، والحال أنَّ هذا غير ممكن علميًا، ولا بدَّ قبل الجواب من مقدمات، كما هو في سائر العلوم والتخصصات، ولكن في الدين فإنَّك ما إنْ تبدأ بجواب علمي حتَّى اعتُرِض عليك بالتصعيب مُقَدِّمَة للهروب!
إنَّ الواقع الذي نعيشه اليوم واقعٌ مشوَّهٌ خَرِب؛ فقد أضرَّ الناسُ بتدينهم عندما قبلوا بخلط الأمور بدخولهم في ما لا يعنيهم، وذلك بعد عُصُورٍ كان فيها الآباءُ والأجدادُ أكثرَ فهمًا وتعقلًا وحكمةً ممَّا عليه الأجيال المعاصرة؛ حيث إنَّ التاجر كان حريصًا على أن يجلس بين يدي العالِم ليأخذ الأحكام الشرعية التي تخصُّ تجارته، فضلًا عن العبادات التي يجب عليه معرفتها وحفظها، ومثله الفلَّاح وصاحب البحر والقصَّاب، وغيرهم من سائر أهل الحِرَف والمِهَن.
ليس الأمر خوفًا من أسئلة لا يتمكَّن العلماء من أجوبتها، بل الخوف من ظروفٍ وأحوالٍ لا تُنَاسِبُ عَرْضَ الإجَابَةِ كما يقتضيه الواقع العِلمي، وهذا ما يَجُدُّ الشيطَانُ لِحَجْبِهِ عَنْ وَعي النَّاس.
إذا فهمتَ ذلك، قلتُ:
إن للإذاعة خطرها على تدين الناس إضافة لخطرها على الإمام المعصوم (عليه السَّلام) في حال حضوره، فيبقى الخطر على التدين في حال غيبته.
في الكافي بسنده إلى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَمَّنْ ذَكَرَه، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَامَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السَّلام) خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا تُحَدِّثُوا الْجُهَّالَ بِالْحِكْمَةِ فَتَظْلِمُوهَا، ولَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ”[23].
وفي بصائر الدرجات بسنده إلى سليمة[24] بن صالح، رفعه إلى أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: “إنَّ حديثَنَا هذا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الرِجَالِ، فَمَنْ أقَرَّ بِهِ فَزيدُوهُ، ومَنْ أنْكَرَهُ فَذَرُوهُ. إنَّهُ لا بُدَّ مِنْ أنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ يَسْقُطُ فيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَليِجَةٍ، حَتَّى يَسْقُط فِيهَا مَنْ كانَ يَشُقُّ الشَّعْرَ بِشَعْرَتَينِ، حَتَّى لا يَبْقَى إلَّا نَحْنُ وشِيعَتُنَا”[25].
وفي المحاسن، عن سليمان بن خالد، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): “يا سُليمَانُ، إنَّكم على دِينٍ مَنْ كَتَمَهُ أعَزَّهُ اللهُ، ومَنْ أذَاعَهُ أذَلَّهُ اللهُ”[26].
وفيه عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “اتَّقُوا اللهَ على دِينِكُم، واحجبوا بالتقيَّةِ؛ فإنَّه لا إيمَانَ لِمَنْ لا تَقيَّة لَهُ. إنَّمَا أنتُم في النَّاسِ كالنحْلِ في الطيرِ، لو أنَّ الطيرَ تَعْلَمُ مَا في جَوفِ النحْلِ ما بَقِيَ فيهَا شيءٌ إلَّا أكَلَتْهُ، ولو أنَّ النَّاسَ عَلِمُوا ما في أجْوَافِكُم أنَّكُم تُحِبُّونَنَا أهْلَ البيتِ لأكَلُوكُم بِألسِنَتِهم وَلَنَحَلُوكُم في السِرِّ والعَلَانِيَةِ. رَحِمَ اللهُ عَبْدًا مِنْكُم كَانَ عَلى ولايَتِنَا”[27].
جهد البدن وجهد النفس:
لشهوات النفس مظاهر كثيرة، وطالما خلطتْ المظاهرُ الباطل بألوان الحق فحسب الناسُ الباطل حقًّا.
روى أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) عن الرضا (عليه السلام)، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): “إذا رأيتم الرجُلَ قد حَسُنَ سَمْتُهُ وهديُهُ وتَمَاوتَ في مَنطِقِهِ وتَخَاضَعَ في حَرَكَاتِهِ، فَرُويَدًا.. لا يَغُرَّنكُم؛ فما أكثر من يُعْجِزُهُ تَنَاولُ الدُنيا وركُوبُ المَحَارِمِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ ومَهَانَتِهِ وجُبْنِ قَلْبِهِ، فَنَصَبَ الدينَ فَخًّا لهَا، فَهُوَ لا يَزَالُ يَخْتِلُ النَّاسَ بِظَاهِرِه، فإنَّ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.
وإذا وجَدتُمُوهُ يَعفُّ عَنِ المَالِ الحَرَامِ، فَرُويَدًا.. لا يَغُرَّنكُم؛ فإنَّ شَهَوَاتِ الخَلْقِ مُخَتَلِفَةٌ، فَمَا أكثر مَنْ يَنْبُو عَنِ المَالِ الحَرَامِ وإنْ كَثُرَ، ويَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلى شَوهَاءَ قَبيحَةٍ فيَأتي مِنْهَا مُحَرَّمً.
فإذا وجَدتُمُوهُ يَعفُّ عن ذلك، فَرُويَدًا.. لا يَغُرَّنكُم حتَّى تَنْظُرُوا مَا عَقَدَهُ عَقْلُهُ؛ فَمَا أكثر مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أجْمَع ثُمَّ لا يَرجِعُ إلى عَقْلٍ مَتين، فَيكُونُ مَا يُفْسِدُهُ بِجَهْلِهِ أكثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.
وإذا وجَدتُم عَقْلَهُ مَتينًا، فَرُويَدًا.. لا يَغُرَّنكُم حَتَّى تَنْظُرُوا مَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ، أو يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلى هَوَاه؟ وكيفَ مَحَبَّتُهُ للريَاسَاتِ البَاطِلَةِ وزُهْدُهُ فِيهَا؛ فإنَّ في النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنيَا والآخِرَةِ بِتَركِ الدُّنيا للدُّنيا، ويَرَى أنَّ لذَّةَ الرياسَةِ البَاطِلَةِ أفْضَلَ مِنْ لذَّةِ الأموَالِ والنِّعَمِ المُبَاحَةِ المُحَلَّلةِ، فَيَتْرُكَ ذَلكَ أجْمَعَ طَلبًا للرياسة. – إلى أن قال – ولكنَّ الرجُلَ كُلَّ الرجُلِ نِعمَ الرجُلِ هُوَ الذي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعًا لأمرِ الله، وقوَاهُ مَبْذُولةً في رِضَاءِ الله، يَرَى الذُلَّ مَعَ الحَقِّ أقْربَ إلى عِزِّ الأبَدِ مِنَ العِزِّ في البَاطِلِ – إلى أن قال – فَذَلِكُمُ الرَجل نِعْمَ الرجُلِ، فِيهِ فَتَمَسَّكُوا، وبِسُنَّتِهِ فاقْتَدُوا، وإلى رَبِّكُم بِهِ فَتَوَسَّلُوا؛ فإنَّه لا تُرَدُّ له دَعوَةٌ، ولا تَخيبُ لهُ طَلِبَةٌ”[28].
بعد هذا البيان الصريح من الإمام (عليه السَّلام) فإنَّنا نتمكَّن الآن من فهم رواية دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (صلوات الله عليه) أنَّ قومًا من شيعته اجتمعوا إليه فَتَكَلَّمُوا فيما هم فيه وذكروا الفرج، وقالوا: “مَتَى نَرَاه يَكونُ، يا بن رسول الله؟
فقال أبو عبد الله: أيسُرُّكُم هذا الذي تتمنَّون؟
قالوا: إي والله.
قال (عليه السَّلام): أفَتُخَلِّفُونَ الأهلَ والأحِبَّةَ وتَرْكَبُونَ الخَيلَ وتَلْبُسُونَ السِّلَاحَ؟
قالوا: نعم.
قال (عليه السَّلام): وتُقَاتِلُونَ أعْدَاءَكُم؟
قالوا: نعم.
قال (عليه السَّلام): قَدْ سَألنَاكُم مَا هُوَ أيسَر مِنْ هذا فَلَمْ تَفْعَلُوهُ.
فسكت القوم. فقال رجلٌ منهم: أيُّ شيءٍ هو، جُعِلْتُ فداك؟
قال (عليه السَّلام): قُلنَا لَكُم: اسكُتُوا، فإنَّكم إذا كَفَفْتُم رضينا، وإنْ خَالفتُم أُوذِينَا، فَلَمْ تَفْعَلُوا”[29].
ظهَرَ أنَّ تحمُّل الإنسان لمشقَّة البدن أيسر من تحمله لمشقَّة النفس؛ فتلك قد تكون في خدمة شهواته إذا ما حمل السيف واعتلى صهوة الجواد مقاتلًا فيشار له بالبنان بطلًا مقدامًا شجاعًا يؤمن بالقضية ولا يخاف الأعداء. وهناك بالفعل من هو كذلك صادقًا مخلصًا، ولكنَّ هذا لا يمنع مِنَ أنَّ ميادين البطولات البدنية أو الخطابية مفتوحة للنفس وشهواتها الكثيرة والمتلونة.
أمَّا التقيَّة وما يترتب عليها فإنَّها تَسْلُبُ الإنْسَانَ أدوات البروز والظهور في (أنا) خاصَّة متميزة، وهذا ما ترفضه النفسُ ويصعبُ عليها أن تتأدَّب بآدابها. نعم، لا شكَّ في أنَّ التقيَّة أيضًا ميدانٌ للجبناء وضعيفي النفس في النوائب وعند التمحيص بالبلاء، ولكنَّ هذا الجبان متساوٍ في الواقع العملي مع الشجاع صاحب التقية، وهذا ما يهمُّ عند الحديث في الوظيفة في زمن الهدنة.
هنا موضع تأمُّل وتدبُّر في ما قاله الإمام (عليه السَّلام) في أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه)، وهو الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منه.
روى في اختيار معرفة الرجال عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام): “ارتَدَّ النَّاسُ إلَّا ثلاثة نفر؛ سلمان وأبو ذر والمقداد.
قال: قلتُ: فَعَمَّار؟
قال (عليه السَّلام): قد كان جاض جيضةً ثُمَّ رَجَعَ. ثُمَّ قال: إنْ أردتَ الذي لَمْ يَشُك ولَمْ يَدخلهُ شيءٌ فالمقداد، فأمَّا سلمان فإنَّه عَرَضَ في قَلبِهِ عَارِضٌ إنَّ عندَ أميرِ المؤمنين (عليه السَّلام) اسمُ اللهِ الأعظم لَو تَكَلَّمَ بِهِ لأَخَذَتْهُمُ الأرضُ، وهو هكذا. فَلُبِّبَ وَوجِئَتْ عُنُقُهُ حتَّى تُرِكَتْ كالسلقَةِ، فَمَرَّ بِهِ أميرُ المؤمنينَ (عليه السَّلام) فَقَالَ لهُ: يا أبا عبد الله، هذا من ذاكَ؛ بَايعْ، فَبَايَعَ.
وأمَّا أبو ذَرٍ فَأَمَرَهُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السَّلامُ) بالسكوت، ولَمْ يَكُنْ يَأخُذُهُ في اللهِ لوَمَةُ لائِمٍ فأبي إلَّا أن يَتَكَلَّمَ. فَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ فَأمَرَ بِهِ.
ثُمَّ أنَابَ النَّاسُ بعدُ، فَكَانَ أوَّل من أنَابَ أبو سِنَان الأنصاري، وأبو عمرة، وشتيرة، وكانوا سبعة، فلم يَكُن يَعرِفُ حَقَّ أميرِ المؤمنين (عليه السَّلام) إلَّا هَؤلاءِ السبْعَة”[30].
إنَّ الكلام في مثل أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه)، وهو من شهد له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالصدق، والإمام الباقر (عليه السَّلام) بالثبات على الولاية متمسِّكًا مستمسكًا، لا يمكن أن يكون في نيَّته أو خلوص مواقفه، ولكنَّه في طبيعته التي وصفها الإمام (عليه السَّلام) بقوله: “ولَمْ يَكُنْ يَأخُذُهُ في اللهِ لوَمَةُ لائِمٍ”، فإنَّها وإن كانت طبيعة نفسية أو ذهنية أو ما نحو ذلك، إلَّا أنَّه كان مُطالبًا بقمعها وامتثال الأمر بالسكوت. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد ظهر أمرٌ لا ينبغي الغفلة عنه، وهو أنَّ المؤمِنَ مُكلَّفٌ بحفظ نفسه من الضرر بالتقية، وهو ما أبرزه بيان الإمام (عليه السَّلام) للنتيجة من عدم سكوت أبي ذر، وهي: “فَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ فَأمَرَ بِهِ”.
فالتقيَّة تحتاج إلى نفس قويَّة وعقل يعي معنى وأبعاد مثل ما رواه في المحاسن عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “كُلَّمَا تَقَارَبَ هَذَا الأمْرُ كَانَ أشَدَّ للتَقِيَّةِ”[31]، فمن أهمِّ أبعاد هذا الحديث الشريف هو العناية بأنْ تكون التقية في حالة تصاعدٍ دون تراجع، والميزان في ذلك ما يَحفظ به المؤمن دينه ونفسه وعِرضه وماله، فقد روى في الكافي عن محمَّد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “كان أبي (عليه السَّلام) يقولُ: وأيُّ شيءٍ أقَرّ لِعَينِي مِنَ التقِيَّةِ؟ إنَّ التقيَّةَ جُنَّةُ المُؤمِنِ”[32].
دفع شبهة:
يُقال: لا معنى للتقيَّة في مثل زماننا؛ وقد انتشرت الكتب والمخطوطات على شبكة الإنترنت وباتت متاحة لكلِّ أحد دون أدنى قيد أو شرط، كما وأنَّ التسجيلات المرئية والصوتية للدروس والمحاضرات والمآتم تملأ الفضاء الإلكتروني وهي كذلك متاحة لكلِّ أحد دون قيد أو شرط.
أوَّلًا؛ يحسُنُ التذكير بأنَّ موضوع التقيَّة هو ما يستفزُّ المخالفين وما يحرضهم للإعابة على مذهب أهل البيت (عليهم السَّلام) والتشنيع عليه بما يثير الشيعة ويستفزهم.
لا يُقال: يُستفزُّ المخالفون لأدنى خطاب شيعي وإن كان في الوضوء وشكوك الصَّلاة!
لانَّا نقول: الكلام في ما يكون ذريعة لهم للإضرار بالشيعة فردًا كان أو جماعة، ويشهد على هذا حديث الإمام الصادق (عليه السَّلام) المروي في الروضة من الكافي، إذ يقول: “ومَا في صُدُورِهِم مِنَ العَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ أكثَر مِمَّا يُبْدُونَ لَكُم”[33]. والوجه أنَّ الشيعي معروفٌ، وإنَّما الكلام في عدم فِعل الإظهار لما يؤخذ ذريعة للإضرار بالشيعة، وكونه ظاهرًا لا يسوِّغُ فعل إظهاره؛ حيث إنَّ التقيَّة أمرٌ بالتلبس بها. وبعبارة مباشرة: وظيفة المؤمن التقيَّة دون دخالة لأي عنوان آخر.
كما ولا يُقال: ولكنَّ الكافي روى عن محمَّد بن الحسن بن أبي خالد شينولة، قال: قلتُ لأبي جعفر الثاني (عليه السَّلام): جُعِلتُ فِدَاكَ، إنَّ مَشَايخَنَا رَووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السَّلام) وكانت التقيَّةُ شَديدَةً، فَكَتَمُوا كُتُبَهُم وَلَمْ تُرْوَ عنهم، فَلَمَّا مَاتُوا صَارَتْ الكُتُبُ إلينا.
فقال (عليه السَّلام): حَدِّثُوا بِهَا فَإنَّهَا حَقٌّ”[34].
لأنَّنا نقول بأنَّ الإطلاق في قوله (عليه السَّلام): (حدِّثوا بها) مُقيَّدٌ بما مرَّ، فلا يُحدِّثونَ بما يكون سببًا في الإضرار، وهذا واضح من وصف السائل للتقيَّة بأنَّها كانت (شديدة)، وفي مثل ذلك يُضم غير الممنوع إلى الممنوع اتِّقاءً للشرور المتوقعة.
نافلة الكلام:
من آثار التقيَّة وفهمها الانصراف عن الانشغال بالآخر، وصرف الجهد في الاهتمام بالداخل الشيعي وتقويته عقديًا وأخلاقيًا وفقهيًا، وهذا هو الموافق للروايات المستفيضة في الحث والتأكيد على الالتقاء بين المؤمنين والحرص على إحياء مجالسهم الخاصَّة.
روى شيخنا الصدوق في ثواب الأعمال بسنده إلى بكر بن محمَّد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “تجلسون وتتحدَّثون؟
قال: قلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ، نعم.
قال (عليه السَّلام): إنَّ تلك المجالس أحِبُّها، فأحيوا أمْرَنَا؛ إنَّه مَنْ ذَكَرَنَا وذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَينِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذبَابَةِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ ولو كانَتْ أكثرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ”[35].
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) بسنده إلى عبد السَّلام بن صالح الهروي، قال: سمعتُ أبا الحسن عليِّ بن موسى الرضا (عليه السَّلام) يقول: “رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أحيا أمْرَنَا.
فقلتُ لَهُ: وكيف يُحْيَى أمْرُكُم؟
قال (عليه السَّلام): يَتَعلَّمُ عُلُومَنَا ويُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فإنَّ النَّاسَ لو عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا”[36].
ولا تغفل عن انصراف (الناس) في رواية عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) إلى الخاصَّة خاصَّةً، ومَن يُؤمَنُ ضره مِنَ العامَّة، وهو انصراف راجع لما مرَّ من الأخبار.
كما وقد ظهر أنَّ التقيَّة حكمةُ العقلاء.
نسأل الله تعالى أدبَ العِترة الطاهرة وفقههم الشريف.
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
20 من ذي الحجَّة 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………..
[1] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 255
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 218 – 219
[3] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 255 – 256
[4] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 258
[5] – تاج العروس – الزبيدي- ج10 ص396 (وقي)
[6] – التقية -الشَّيخ الأنصاري- ص11
[7] – الآية 94 من سورة الحجر
[8] – الآية 67 من سورة المائدة
[9] – الآية 30 من سورة البقرة
[10] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 256 – 257
[11] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – هامش ص 236 (حقيق: تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري)
[12] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 112
[13] – الهامش لنفس الصفحة
[14] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 236
[15] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (عليه السَّلام) – ص 48
[16] – الآية 14 من سورة النمل
[17] – المُحقِّق، الشَّيخ على أكبر الغفاري: في بعض النسخ (قناع السر).
[18] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 368
[19] – بحار الأنوار – العلَّامة المجلسي- ج44 ص329
[20] – الإرشاد – الشيخ المفيد – ج 2 – ص 79
[21] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 256
[22] – المصدر السابق
[23] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 42
[24] – محقق الكتاب؛ الحاج ميرزا حسن كوچه باغي: في البحار (سليمان) وليس سليمة
[25] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) – ص 43
[26] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 257
[27] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 257 – 258
[28] – وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 8 – ص 317 – 318
[29] – دعائم الإسلام – القاضي النعمان المغربي – ج 1 – ص 60
[30] – اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – الشيخ الطوسي – ج 1 – ص 47 – 52
[31] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 259
[32] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 220
[33] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 3
[34] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 53
[35] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 187
[36] – عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) – الشيخ الصدوق – ج 1 – ص 275