لم يسمحْ لنا آباؤنا وأولياءُ أمرِنا بمصاحبة جماعةِ السُّوء، وكُنَّا لا نعرفُ الغايةَ الحقيقيَّة وراءَ ذلك في صغرنا، ولكنَّنا نعلمُ بالإجمال أنَّ وراء إرشادهم صوابًا.
مضت السِّنونُ وعلمنا بأنَّ “المَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ”، وعلِمنا بأنَّ الثَّقافة مهما كان باعُها طويلاً وصرحُها شامخًا، تستحيلُ إلى هباءٍ تَذْرُوهُ الرِّياحُ مَعَ أيِّ هَبَّةِ رِيحٍ تَعصِفُ بها، فكيف إذا كان الفهمُ سقيمًا والعلمُ جهلاً مُركَّبًا، فإنَّ ذا فريسةُ أراذلِ الهَمَج المتثاقف، والمذاهبِ المُرجئة، ولَعَمري إنَّها السَّواد الأعظم لبني البشر.
والعقلُ الجمعيُّ الجماهيريُّ لا عقلَ له، وأنَّى له ذلك وقد تلوَّن كالحِرباء ساعةَ يمَسُّه أيُّ غصنٍ طريٍّ من فروع الشَّجَر المختلِف المتخالف، فالعلمُ والمعرفةُ – مهما بلغت – يُتْعِبُها صَدُّ أيِّ هَجْمَةٍ مُعَادِيَةٍ، بل هي بحاجةٍ لمَعُونةٍ متنوِّعة، أَلَمْ تَسْمَعْ الشَّنفرى وهو يقول:
- وإنِّي كفاني فَقْدَ مَن ليسَ جازِيًا
بحُسنَى، ولا في قُربِهِ مُتَعَلَّلُ
- ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مُشَيَّعٌ
وأبيضُ إصليتٌ، وصفراءُ عَيطَلُ
فالقلبُ القويُّ المملوءُ بالعِلمِ والمعرفة مطلوبٌ مرغوب، ولكنْ يَحْسُنُ حالُه إذا رافقه السَّيفُ الأبيضُ المدافع والمحامي، والقوسُ العيطلُ الموجِّهُ والمُرشِد، نعم، ينبغي أنْ يكونَ المجتمعُ المحيطُ بي مجتمَعًا صالِحًا أو يقرُبُ إليه، يؤمنون بالله ورسولِه وأوليائه، ويُقيمون الصَّلاة ويؤتون الزَّكاة، ويأتمِرون بأمرِ الله، وينزَجِرونَ لِنَهيِهِ سُبحَانَه، يعملونَ الصَّالحات في خلوَاتهم وعلانيتهم، لا يهِمُّون بالمَعصِيَة رغبةً في العِصيَان، ولا يظلمونَ عبادَ رَبِّهِمُ الرَّحمن، ذلك أحد مقتضيات الفوز بالسَّعادة الأبديَّة، والكرامة السَّرمديَّة.
***
كنتُ في جلسةٍ عائليَّةٍ مع الأقرباء، وسؤال تلك اللحظة كان: ما السَّبَبُ في وجود الكسرة تحت (السَّمَاوَاتِ) وبعدها كلمةٌ معطوفةٌ عليها ختامُها حرفٌ حَرَكَتُه الفتحة (والأرضَ)، في قوله سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؟ فأجابت عمَّتي السَّيِّدةُ العَلَويَّةُ وقالت: هِي چِدِي اجِّي عَلَى اللِّسَان!، مكتفيةً بهذه الإجابة التي تحملُ بين ثناياها قاعدةً جليلةً، هي عينُ ما صدَّرتُ به الحديث.
لم يكن الجوابُ يركِّز على بيان القاعدة النَّحويَّة، بقَدْرِ ما كان يهتفُ قائلاً: بأنَّ استقامة اللِّسان على الجادَّة وتنكُّبَه طريق اللَّحن الأعجميِّ بحاجةٍ إلى صُحبَةٍ طَيِّبَةٍ دائمة؛ بحاجةٍ إلى كثرة تلاوةٍ لكتاب الله العزيز، وحفظه وتذاكره، بحاجةٍ لتكرار قراءة الأدعية الواردة عن أرباب اللِّسان الفصيح (عليهم السَّلام)، بحاجةٍ إلى ممارسةٍ يصِفُها البعضُ بالصُّوريَّة الخالية عن العلم، ولكنَّها متمِّمُ العلمِ وجوهرُهُ ولذَّتُه.
فرُبَّ عالمٍ لاكَ بلسانه المفصَّل ومغني اللَّبيب، ولكنَّنا نراه يتهوَّع تهوُّع البعيرِ حين يقرأ سطرًا من العربيَّة، لا لمخادعته نفسَه في الدَّرس والفهم، بل هو ذو (فؤادٍ مُشَيَّع)، ولكن وا أسفاه، فقد استغنى عن الأبيض والعيطل، وخالط الخيط والمغزل، ظنًّا منه بأنَّ علمَه وقدرتَه على فهم القواعد الرَّاكدة في متونها ستنهض به عند الجادَّة.
وعَودًا على بدئ، فإنَّ ثقة الإسلام شيخنا الكُليني (عليه الرَّحمة) وَسَمَ أحد عناوين الكافي الشَّريف بعنوان: باب مَن تُكره مُجالسته، وما إن تَلِج إلى الحديث الأول الذي أورده ستقف على ما نتحدَّث عنه في المقام، “فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام)، قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلام) إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مُوَاخَاةَ ثَلاثَةٍ: الْمَاجِنِ الْفَاجِرِ، وَالأحْمَقِ، وَالْكَذَّابِ. فَأَمَّا الْمَاجِنُ الْفَاجِرُ؛ فَيُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنَّكَ مِثْلُهُ، وَلا يُعِينُكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ وَمَعَادِكَ، وَمُقَارَبَتُهُ جَفَاءٌ وَقَسْوَةٌ، وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ عَارٌ عَلَيْكَ. وَأَمَّا الأحْمَقُ؛ فَإِنَّهُ لا يُشِيرُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، وَلا يُرْجَى لِصَرْفِ السُّوءِ عَنْكَ وَلَوْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَرُبَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَكَ فَضَرَّكَ، فَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ. وَأَمَّا الْكَذَّابُ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْنِئُكَ مَعَهُ عَيْشٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَكَ، وَيَنْقُلُ إِلَيْكَ الْحَدِيثَ، كُلَّمَا أَفْنَى أُحْدُوثَةً مَطَرَهَا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يُحَدِّثُ بِالصِّدْقِ فَمَا يُصَدَّقُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَاوَةِ، فَيُنْبِتُ السَّخَائِمَ فِي الصُّدُورِ، فَاتَّقُوا الله (عَزَّ وَجَلَّ) وَانْظُرُوا لأنْفُسِكُمْ”.
***
وقد لا يكون أمثالُنا مِمَّن تقمَّص رداء الخير والصَّلاح وصار عنوانًا له، فبالتَّالي يأتيه الأمرُ بالمحافظة على تديُّنه الرَّفيع ومقامه السَّامي، ولكنَّني خبرتُ خبرًا عن السَّادة من آل محمَّدٍ (عليهم السَّلام) يقول: “إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ؛ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بَقَوْمٍ إلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ”.
فلا نحن نزكِّي أنفسنا، ولا أعمالنا تنهض بالتَّزكيَّة، ولكن تقرُّبُنا إلى طريق الصَّالحين والاستنان بسُنَن الأئمَّة الطاَّهرين (عليهم صلوات المصلِّين)، يُرجَى له أن يُبوِّئنا منزلةً يغبطنا فيها من الخَلْق الكثيرُ.
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على مُحمَّدٍ وآله الطَّاهرين.
أحمد نصيف البحرانيّ
4 ربيع الأول 1441 للهجرة
2 /11/2019 للميلاد