الصراعات والنزاعات، وواقع الاستيراد

بواسطة Admin
0 تعليق

لا شكَّ في كون النزاعات والخصومات وما تنتجه من مشكلات وأزمات مُكَوِّنًا طبيعيًا للبشرية في تجمعاتها واجتماعاتها، ومن يحاول نفيها أو التطلع للقضاء عليها فهو في الواقع يُلاحِقُ سَرَابًا ويَنْشُدُ مُحالًا، وقد قال الله تعالى (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)[1]، ولا مرية في شهادة الواقع بذلك على مرِّ التاريخ، وليس ببعيد عن أذهاننا مقتلُ هابيل على يد أخيه قابيل.

هذا أمرٌ لا نجادل فيه، وإنَّما ندعو أنفسنا والمؤمنين إلى ضرورة التزام طريق الحِكمة في معالجة الخلافات واستيعابها، والحذر كل الحذر من التحول بها إلى تنازعات تنتهي بنا إلى الفشل وذهاب الريح، فقد قال جلَّ في علاه (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

ثمَّة أمر ينبغي لنا الانتباه إليه بكثير من الوعي والجِدِّيَةِ، وهو أنَّ المشكلات تخرج، إن لم نقل: قطعًا، فغالبًا، عن طبيعيتها ما لم تكن وليدَةَ نفس المجتمع، فنحن في البحرين -مثلًا- قد نتوارث مشكلة وَقْفٍ، أو نزاعًا على ولاية مأتَمٍ، أو نواجه مشكلةَ ما يسمى ببيع بطاقات الهوية من أجل الحصول على مبلغ شهري أو ما شابه، أو ربَّما دخل صيادو السمك في نزاع مع الجهات المختصة حول قانون منع صيد الروبيان في بعض المواسم!!

نعم، لا نُنكِرُ الحِدِّيَةَ، في حدودها الطبيعية، التي قد توافق بعض النقاشات بين الأصوليين والأخباريين مثلًا..

لن نتأفَّف من مشكلةٍ يولدها واقعنا المجتمعي البحراني، ولكنَّ الأمر ليس كذلك مع ما يُستورد من صراعات ونزاعات وتنازعات ومشكلات مهما اجتهد مستوردوها والمنفعلون معها وبها في تبريرها بِلَيِّ عُنُقِ روايةٍ أو تكسير أضلاع آية، فكلُّ المطلقات والعمومات مُقيدة ومُخصَّصة حالًا ومقامًا، فإذا انْشَغَلَتْ قلوبُنَا بمشكلةٍ أو أزمةٍ في مجتمعٍ مؤمن خارج حدود مجتمعنا فإنَّنا نتأذَّى، ونحاول ما استطعنا المساهمة في حلِّها، ولن نترك الدعاء للمؤمنين بالفرج والتيسير. أمَّا أن نستورد المشكلة ونعيد إنتاجها في مجتمعنا مصطنعين لها حالةً ثقافية معينة، فهذا أمر يرفضه أدنى تأمُّل وأيسر تعقُّل..

أتأسَّفُ جدًّا؛ لعدم تمكُّني من التصريح ببعض المصاديق؛ فالتصريحُ يَظلُمُ فِكْرَةَ المقَالِ؛ بسبب انحصار بعض القرَّاء الكرام في المصداق وتركهم للفكرة، ولذلك ألتزم طرح الفكرة وأحاول تحديدها ما استطعت.

يتَّسِمُ مجتمعُنا ببروز العوائل مكونًا صريحًا لواقعه الثقافي والسلوكي بشكل عام، فالمآتم، مثلًا، يُعرَف الكثيرُ منها بأسماء العوائل وكبرائها، كمأتم مدن والقصَّاب وبن زبر وبن رجب وحسن محمود في المنامة، والترانجة في الديه، وآل عبد الحي في السنابس، والجبور في دار كليب[2]، فكانت التجمعات عائلية، والخلافات محدودة تمامًا ولا تتجاوز الطبيعة الاجتماعية.

تشكَّلتْ في بعض المجتمعات المؤمنة، خارج حدودنا الجغرافية، أحزابٌ وتياراتٌ قد تكون متولدة منها، وقد تكون مستوردة من خارجها، إلَّا أنَّها، قطعًا، لم تتولد في البحرين، بل لا علاقة لنا بها، إلَّا أنَّها استُورِدَت لنا بشكل من الأشكال، واستورِدَت معها مشاكلها وما ينشب بينها من تنازعات وخصومات، فهُجِرَت سِمَة البروز العوائلي وفُرِض البروز الحزبي كمكون يسعى إلى أن يكون مُقوِّمًا لأصل المجتمع في البحرين!!

ما ينشب هناك من نزاعات وصدامات يقتحمنا غزوًا، ويعصف بنا مُدمِّرًا، فنتحمل تبعاته وندفع أثمانًا باهضةً من قلوبنا وعقولنا ونفسياتنا وتماسكنا، دون ان نجني أكثر من الفرقة وتعميق الخصومات!!

نحن نحترم التشكلات الحزبية والتيارات الفكرية المستظلة بظلال المرجعية الفقهية الرشيدة، ونُقدِّر جهود الجميع في حمل راية الثقلين المُقدَّسين، ولكنَّ الذي نريد الإلفات إليه، هو أنَّنا، في مجتمعنا، تياراتٌ فكريةٌ ولَّدتْهَا حاجاتُنا المجتمعية الخاصَّة، فلماذا نتشكل في غيرها ممَّا هو أجنبي عنَّا؟!

نعاني اليوم الأمَرَّين، من مشاكل وصراعات لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فلا نجد أنفسنا إلَّا في دوَّماتٍ لمشاكل نستصدرها من مختلف المجتمعات، ونختلق لها، قسرًا، واقِعًا يفعل، ويفتعل، فينا الأفاعيل!

أعاني كثيرًا، فالماء الذي يملأ فمي قارب أن يخرج من أنفي..

دعوني أضرب مثلًا بفريقي برشلونة وريال مدريد الإسبانيين؛ لعلَّه يكون نافعًا..

يشتهر بين الناس انقسامهم في التشجيع بين مشجع لفريق برشلونة ومشجع لفريق ريال مدريد، وهذا أمر لا بأس به، فكرة القدم لعبة جميلة وفيها الكثير من المهارات المُمتِعة، غير أنَّ الذي حصل عندنا هو انتقال المشجعين من مجرَّد التشجيع الجميل إلى التبني، فبحرانيٌّ يقول عن ريال مدريد (فريقنا.. جماعتنا.. ملعبنا.. ربعنا) ويتصارع ويشتم وتتوتر أعصابه دفاعًا عن الفريق الذي يشجعه (لاحظوا: الصحيح أن نقول: الفريق الذي يشجعه، لا: فريقه؛ فهذه النسبة تورث المصائب)، وأكثر من ذلك أنَّ آخرَ يتَّخذ موقِفًا سياسيًا كتلونيًا مؤيِّدًا لحركة الانفصال!!

على هونكم يا أحبَّة، فتشجيعكم للفريق لا يعني أبدًا انتماءكم له.. هو تشجيع لفريق كرة قدم.. لا أكثر.

هناك بعض النزاعات بين الفرق الكروية وجماهيرها (هناك)، فاستوردها بعض، وربَّما الكثير، من أولادنا إلى (هنا)، وبالفعل هناك فواتير عندنا تُدفع بسبب هذا الاستيراد الخاطئ.

ليس الأمر هو الأمر، فالعلاقة بالمرجعيات والأحزاب والتيارات الدينية ليست كالعلاقة بفرق كرة القدم.. أعلم ذلك، إلَّا أنَّ طبيعة الاستيراد هي ما أريد إظهاره بوضوح قدر استطاعتي.. فانتبه رعاك الله..

في مسائل كرة القدم تنتهي علاقة المشجع بالفريق الذي يشجعه مع نهاية المباراة، أو مع نهاية الموسم، ولو أُلغي الفريق أو مات كلُّ لاعبيه أو احترق النادي، فالمشجع يختار فريقًا غيره.. وانتهى الأمر، أمَّا في مسألة الأحزاب الشيعية والمرجعيات والتيارات الدينية فهي مسألة ذات جهات تعنينا ويهمنا أمرها، وهذا أمر مقبول، بل قد يكون من علامات المهم التفكير في هموم المسلمين، غير أنَّ كلامي، تحديدًا، التحزب التبعي واستيراد المشكلات والأزمات إلى مجتمعنا، فندفع الإثمان ونحترق حطبًا، ولا أدري إن كان ذلك لفائدة غيرنا، أو بلا فائدة لأحد أصلًا!!

لا مفرَّ من التَكْرَار..

من الرائع جدًّا الاهتمام بقضية فلسطين، ومن المهم متابعة ما يجري في بعض المجتمعات من أحداث وما شابه، وقد تستوجب بعض المقامات المشاركة بالمقدور في دفع الضرر عن المؤمنين، ولكنَّ هذا كلَّه لا يصح إلَّا أن يكون من منطلقاتنا الثقافية والفكرية، وما يوافقها من الآخرين، مع تجنب الاندكاك في الآخر بما يجلب عندنا مشاكله ونزاعاته الخاصَّة..

فلنفكر ولنتأمل ولندرس.. ولنقرِّر؛ على أن نكون وجودًا متغيرًا مستقِلًّا، لا تابِعًا. وهنا كلمةٌ لمن يُصرِّون على استيراد مشاكل الآخرين وحرقنا بها..

بشكل صريح وواضح أقول: هذا خِلافُ الأدَبِ، فليس من حقِّكم تحميل المجتمع مسؤولية قرارتكم وتوجهاتكم، فكفُّوا عن استعمال المؤمنين، سواء كان ذلك منكم عن قصد أو عن غير قصد؛ فاستغلال طيبة الناس سلوكٌ سيء.

في الواقع، تعبت من شدَّة المدارة، وربَّما التورية، في المقال، وأملي أن يكون التوفيق قد حالفني، فوصلتْ الفِكرة كما هي، لا كما يريد أنْ يراها البعض.

 

السيد محمَّد علي العلوي

5 ربيع الأوَّل 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………………………..

[1] – الآية 36 من سورة البقرة

[2] – كنتُ أرجو التزام أهل البحرين بهذه الخصوصية؛ فهي سِمَةٌ ثقافيةٌ وتوثيقيةٌ لها مزاياها المهمَّة جدًّا، ولكن بسبب نفس الاستيراد غير المدروس دخلنا في مصادمة مفتعلة، وأراها غير واعية، بين هذه الإطلاقات وبين تسمية المآتم بأسماء أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الطبيعي رجحان التسمية بأسمائهم (عليهم السلام)، غير أنَّ أصل المقارنة وطلب الترجيح في غاية الخطأ، بل هي دعوة غافلة تمامًا عن مِلاك التسمية بأسماء العوائل. وكيف كان، فمآل مناقشة هذا الأمر وأمثاله إلى الجدل العقيم، وهذا أمر مؤسف أن نصل إليه.. مؤسف جدًّا.

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.