لغاية التشجيع وشحذ الهِمم.. مقدّمة الكتاب
كنتُ في حوار مع بعض الأصدقاء حول عِظَمِ كربلاء الحسين (عليه السلام)، وما ينبغي علينا تقديمه للمساهمة في إحياء هذه العظمة الكونية العالية، وممَّا تناولناه في حوارنا مسألة الكتابة، وأهمية الحث عليها، فأشرتُ إلى أنَّني في طور كتابة بحثٍ حَولَ عُمْقٍ عقائدي مُهِمٍّ أراه الأصل في استنفار إبليس وإقدامه على ارتكاب فضيعة التاريخ بقتل الحسين (عليه السلام)، ومع استمرار الحديث جاء اقتراح القيام بنشر جزءٍ من مقدمة البحث؛ للتشجيع وشحذ الهمم، لعلَّنا نشهد أيَّامًا يموج فيها العلم النافع من نواصي أقلام الفِكر والنظر.
فهنا جزءٌ من مقدّمة:
كَرْبَلَاءُ
مِنَ الشَجَرَةِ إلَى غَضْبَةِ الصُورِ
(فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
………………………………………..
المقدّمة
جمع شيخُنا ابنُ قولويه القمِّي[1] (رضوان الله تعالى عليه) في كتابه الجليل الموسوم بكامل الزيارات، العجيبَ مِنَ الأحاديث الصحيحة عن أهل بيت العصمَةِ (عليهم السلام) في عظمة وفضل، وكونية زيارة الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)[2] بما يثير تساؤلات محورية حول ما يقع خلف هذا الاهتمام العظيم من السماء بأمر الإمام الحسين (عليه السلام) وزيارته حتَّى لو كانت مشوبة بخوفٍ من السلطان الظالم!
عن ابنِ بُكَير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلتُ له: إنِّي أنزلً الأَرَّجَانَ[3] وقلبي يُنَازِعُني إلى قبر أبيك، فإذا خرجتُ فقلبي وَجِلٌ مُشْفِقٌ حتَّى أرجع؛ خوفًا من السلطانِ والسُعاةِ وأصحابِ المَسالح[4].
فقال (عليه السلام): “يا ابن بُكَير.. أمَا تُحِب أنْ يَرَاكَ اللهُ فِينا خَائِفًا؟ أما تعلم أنَّه من خَافَ لِخَوفِنا أظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّ عَرْشِهِ، وكان مُحَدِّثُهُ الحُسَينُ (عليه السلام) تحتَ العَرْشِ، وآمَنَهُ اللهُ مِنَ أفْزَاعِ يوم القيامة؟ يَفْزَعُ الناسُ ولا يَفْزَعُ، فإن فَزِعَ وَقَّرَتْهُ الملائِكَةُ وَسَكَّنَتْ قَلبَهُ بالبِشَارَةِ”[5].
وخصَّص سبحانه وتعالى أيام الزيارة عن أيام عمر الزائر، فعن أبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصادق (عليهما السلام)، قال: “إنَّ أيامَ زائري الحُسين (عليه السلام) لا تُحْسَبُ مِنْ أعْمَارِهم، ولا تُعَدُّ مِنْ آجَالِهِم”[6].
وأعظمُ وأعجَبُ مِنْ ذَلِكَ ما عن عُروَةِ بنِ الزُبير، إذ قال: “سمعتُ أبا ذر، وهو يومئذٍ قَدْ أخْرَجَهُ عُثْمَانُ إلى الرَبَذَة، فقال له الناسُ: يا أبا ذر، أبشِرْ، فهذا قليلٌ في الله تعالى.
فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتِلَ الحُسَينُ بن علي (عليهما السلام) قتلًا -أو قال: ذبحًا-، واللهِ لا يكونُ في الإسلام بعد قتل الخليفَةِ[7] أعظم قتيلًا منه، وإنَّ اللهَ سَيَسِلُّ سيفَهُ على هذه الأمَّةِ لا يغمده أبدًا، ويبعثُ قائِمًا من ذُرِيَّتِه فَيَنتَقِمُ مِنَ الناس، وإنَّكم لو تعلمُونَ ما يدخُلُ على أهلِ البِحَارِ وسُكَّانِ الجِبَالِ في الغِيَاضِ والآكامِ وأهلِ السماءِ مِنْ قَتْلِهِ لبَكِيتُم واللهِ حَتَّى تَزْهَقَ أنْفُسُكُم. وما مِنْ سَمَاءٍ يَمُرُّ بِهِ رُوحُ الحُسينِ (عليه السلام) إلَّا فَزِعَ له سَبعُونَ ألف مَلَكٍ، يَقُومُونَ قِيَامًا تَرعدُ مَفاصِلُهُم إلى يومِ القِيَامَةِ. وما مِنْ سَحَابَةٍ تَمُرُّ وترعدُ وتبرقُ إلَّا لَعَنَتْ قَاتِلَهُ، وما مِنْ يَومٍ إلَّا وتَعْرُض رُوحُهُ عَلى رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) فيلتقيان”[8].
ومن عظيم الحقائق أن تُشبَّه زيارةُ الحُسينِ (عليه السلام) بزيارة الله في عرشه، فعن زيد الشَحَّام، قال: “قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لِمَن زَارَ قَبْرَ الحُسينِ (عليه السلام)؟
قال: كان كمن زَارَ اللهَ في عرشِهِ.
قال: قلتُ: ما لِمَن زَارَ أحَدًا مِنكم؟
قال: كَمَنْ زَارَ رَسُولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ)”[9].
وفي أمالي شيخنا المفيد (رضوان الله تعالى عليه)، عن الصادقِ جعفر بن محمَّد (عليهما السلام)، قال:
“أصْبَحَتْ يومًا أمُّ سلمة (رحمها الله) تبكي، فقيل لها: مِمَّ بُكاؤك؟
فقالت: لقد قُتِلَ ابني الحُسين (عليه السلام) الليلة، وذلك إنَّني ما رأيتُ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) مُنْذُ قُبِضَ إلَّا الليلة، فرأيتُه شَاحِبًا كئيبًا، فقلتُ: ما لي أراك يا رسول اللهِ شاحبًا كئيبًا؟ قال: ما زلتُ الليلةَ أحفرُ قُبُورًا للحسينِ وأصحابِه (عليهمُ السلام)”[10].
وقد فصلَ الإمامُ الحسنُ (عليه السلام) في أمر أخيه السبط الشهيد (عليه السلام) بنفيه لأيام الدنيا، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، من حيث عظمة الحدث عن يوم كربلاء. فعن الصادق جعفر بن محَّمد، عن أبيه، عن جدِّه (عليهم السلام): “أنَّ الحُسينَ بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) دَخَلَ يومًا إلى الحسن (عليه السلام)، فلمَّا نَظَرَ إليه بكى.
فقال له: ما يُبكيكَ يا أبا عبد الله؟
قال: أبكى لِمَا يُصْنَعُ بك.
فقال له الحسنُ (عليه السلام): إنَّ الذي يُؤتَى إليَّ سُمٌّ يُدَسُّ إليَّ فَأُقْتَلُ بِهِ، ولكن لا يومَ كيومِكَ يا أبا عبد الله، يَزدَلِفُ إليكَ ثلاثُونَ ألف رَجُلٍ، يَدَّعُونَ أنَّهم مِنْ أُمَّةِ جَدِّنا مُحَمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليه وآله)، ويَنْتَحِلُونَ دِينَ الإسْلامِ، فيجتمعون على قتلك، وسَفْكِ دَمِكَ، وانتهاكِ حُرمَتِكَ، وسبي ذَرَاريكَ ونِسَائِكَ، وانْتِهابِ ثِقْلِكَ، فعندها تَحِلُّ بِبَنِي أُمَيَّة اللعنة، وتمطر السماءُ رمادًا ودمًا، ويبكي عليك كُلُّ شيءٍ، حتَّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار”[11].
يلتفتُ النظرُ إلى أنَّ المَقَاتِلَ مَعْلَمٌ شاهِدٌ من معالم السيرة البشرية على مرِّ التاريخ، ولم يكن تاريخ الأنبياء، ولا تاريخ الإسلام استثناءً منها، بل هناك من الأحداث الدموية والانتهاكات الوحشية ما يشيب منه الجنين في أحشاء أمِّه..
أخٌ يُزْهِقُ رُوحَ أخيه حسدًا، ودون سابق تجرِبة، بل أنَّ قابيل ابتدأها ابتداءً، وأبدعها إبداعًا، بالرغم من طيب نفس هابيل، حتَّى أنَّه قال مُصرِّحًا (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[12]!
وينقل شيخُنا الصدوقُ (رضوان الله تعالى عليه) في العلل، أنَّه: “انطلق إبليسُ يستقري مجالِسَ بني إسرائيل أجمع ما يكونون، ويقول في مريم ويقذفها بزكريا (عليه السلام)، حتَّى التحمَ الشرُّ وشَاعتِ الفَاحِشَةُ على زكريا. فلمَّا رأى زكريا (عليه السلام) ذلك هَرَبَ، واتبعه سفهاؤهم وشِرَارُهم، وسَلَكَ في وادٍ كثير النَبْتِ، حتَّى إذا تَوَسَّطَهُ انفَرَجَ له جذْعُ شَجَرَةٍ فَدَخَلَ فِيِهِ (عليه السلام)، وانْطَبَقَتْ عليه الشجرةُ، وأقْبَلَ إبليسُ يَطلبُه معهم، حَتَّى انْتَهى إلى الشَجَرَةِ التي دَخَلَ فيها زكريا، فَقَاسَ لهم إبليسُ الشَجَرَةَ مِنْ أسْفَلِها إلى أعلاها حَتَّى إذا وَضَعَ يَدَهُ على مَوضِعِ القَلبِ مِنْ زَكريا، أمَرَهم فَنَشَرُوا بِمنْشَارِهم وَقَطَعُوا الشَجَرَةَ وقَطعُوهُ في وَسَطِهَا، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْهُ وتَرَكُوه”[13].
ناهيك عمَّا تعرَّض له نبيُّ الله إبراهيم (عليه السلام) من أذى عظيم، وما تحمَّله النبيُّ عيسى (عليه السلام) من جورِ ووحشيةِ بني إسرائيل…
لِمَ، وبِمَ مُيِّزَ الحُسينُ (عليه السلام)؟
لم أتمكن من الوقوف العِلمي على تفرُّدِ كربلاء بالبعد المأساوي الدموي عن غيرها من أحداث التاريخ، خصوصًا وأنَّ الاستناد في البحث على النقل الخبري الحَدَثِي لا يُوفِّرُ -في الغالب- مادَّة علمية صريحة يمكن البناء عليها بما ينتهي إلى نتيجة حاسمة فاصلة.
نشهدُ اليوم الكثير من الطغيان الوحشي العظيم في حقِّ المُستضعفين في شرق الأرض وغربها، وليست الفضائع التي ترتكب في حق المعتقلين ببعيدة ولا مستغربة، خصوصًا في هذا العصر الذي باتت فيه المعلومة مجانية بلا مقابل!
وصَلْنَا اليوم إلى القول بتناهي الوحشية البشرية، فلا شيءَ يُتَصَوَّرُ فوقَ ما حَصَلَ -مثلًا- في سجون العراق زمنَ البعث العراقي المجرم، وفي حقِّ مسلمي بورما من مجازر تُبكي الصخر..!
كلُّها أيَّامٌ قد ملأتها المآسي بما قد يفوق الخيال، ولكنَّ أبا محمَّد الحسن يقولُ لأخيه (عليهما السلام): “لا يوم كيومِكَ يا أبا عبد الله”!
نعم، لا شكَّ في عِظم ما جرى على أبي عبد الله (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، وقد قال الإمامُ الرضا (عليه السلام): “إنَّ المُحَرَّمَ شهرٌ كان أهلُ الجاهليةِ يُحَرِّمُونَ فيه القتال، فاستُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤنَا، وهُتِكَتْ فِيهِ حُرُمَتُنَا، وسُبيتْ فِيهِ ذَرَارينا ونِسَاؤنا، وأُضْرِمَتِ النِيرَانُ فِي مَضَارِبِنا، وانْتُهِبَ ما فيها من ثِقْلِنَا، ولم تُرْع لِرسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) حرمة في أمرنا. إنَّ يومَ الحُسَينِ أقْرَحَ جُفُونَنَا، وأسْبَلَ دموعَنَا، وأذَلَّ عَزيزَنا، بأرضِ كربٍ وبلاءٍ، أورَثَتْنَا الكَرْبَ والبَلاءَ، إلى يوم الانقضاء، فعلى مِثلِ الحُسَينِ فليبكِ الباكون، فإنَّ البُكَاءَ يَحطُّ الذنوبَ العِظَام.
ثُمَّ قال (عليه السلام): كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهرُ المُحَرَّمِ لا يُرى ضَاحِكًا، وكانت الكآبَةُ تَغلبُ عليه حتَّى يمضي منه عشرةُ أيَّام، فإذا كان يومُ العاشِرِ كان ذلك اليوم يومَ مُصيبَتِهِ وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتِلَ فِيهِ الحُسَينُ (صلوات الله عليه)”[14].
ولكنَّ الذي يميل إليه النظرُ، رجوع عِظمِ أمر كربلاء إلى أكثر من عِلَّة، وعدم اقتصاره على البُعدِ المأساوي الدموي الإنساني فقط، بل أنَّ هذا الأخير من مقتضيات غاية الإلفات إلى عمقٍ هو المحور في كربلاء.
دعوى البحث:
ما جرى على الحسين (عليه السلام) في كربلاء هو التحقُّق الواقعي للقضية الكونية العظمى بين إبليس (لعنه الله) ونورِ الوَلاية الإلهية، وليس الأمر في بعده السياسي إلَّا خطَّة شيطانية على طريق الوصول إلى الغاية الإبليسية الكبرى، وهي الصرفُ عن الوَلاية، وهذا ما نحن بصدد إثباته إن شاء اللهُ تعالى.
————————————————————————————————–