لماذا يأمر الأبوان ولدهما؟ افعل.. لا تفعل! لماذا ينصحانه ويرشدانه ويبديان خوفهما عليه؟
أجِدُ بُعدين في هذه الجبلَّة الإنسانية، بل هي مما جُبِل عليها الحيوان أيضًا، أمَّا البُعد الأوَّل فهو خوف الأبوين على ولدهما وإرادة الخير إليه بتعليمه التمييز بين الصح والخطأ والحسن والقبيح وما ينفع وما يضر، وما إلى ذلك، وأمَّا البعد الثاني فهو طبيعة الإنسان في نقل التجارب وتناقلها، وينبعث الأمران من قصد التكامل عند خصوص الإنسان، وهو قصدٌ فِطري يمارسه الفرد والجماعة بطرق مختلفة منها الصحيح ومنها الخاطئ، ولذلك نرى أنَّ التعليم بافعل ولا تفعل يتجاوز دائرة الآباء والأبناء إلى دائرة الأصدقاء والزملاء، بل وأوسع من ذلك بكثير.
لا يقف الأمر عند تعلُّم الإنسان من الإنسان، فقد تعلَّم قابيل من الغراب (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)، بل ويتعلَّم النبيه من النباتات.. لا وأكثر من ذلك، فهو بأخذ دروسًا حتَّى من الجمادات (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
مما يؤسَفُ له، ضياع الكثير من التجارب التي خاضها ويخوضها الإنسان، وما أكثر الجواهر التي رحلتْ برحيل صناديقها عن هذه الدنيا، ولو أنَّها فُتِحت، او شيءٍ منها لعمَّ خيرها وانتشر بذرُها، ولكنَّنا، وخصوصًا في المجتمع الإسلامي نعاني تراجعًا كبيرًا في ثقافة تدوين التجارب والمذكرات، وينتشر بيننا اختصار هذا الأمر على المشاهير والأكابر، والحقُّ أن مذكرات فلَّاح في قرية نائية قد تكون أكثر أهمية وفائدة من مذكرات جورج بوش الابن أو هيلاري كلينتون التي اتشرت ترجماتها في أسواقنا وسرعان ما نفدت من بعض المكتبات!
نحن في حاجة إلى قراءة تجارب الطفل الصغير بنفس حاجتنا لقراءة مذكرات الكبير؛ فقد تخرج كلمة من هذا الطفل فتغير حياة أمَّة بأكملها، كيف لا وقد غير هدهد وجه التاريخ في منطقة جغرافية تعتبر من أهم المناطق على وجه البسيطة (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).
نعم، فهناك من التجارب ما له سمة الخصوصية وبمستويات مختلفة، وهذا امر طبيعي قد يتمكن صاحب التجربة من معالجته بأشكال مختلفة، كأن يُستثنى من خصوص الذكريات، ويُفرد له مقام خاص فيُطرح كقصة أو رواية أو ما شابه، والأمر في ذلك سهل لا يُعي من يريد العطاء.
في هذه السطور أدعو كلَّ من يمر عليها إلى تشمير ساعد الجدِّ والانطلاق بصدق وإخلاص لكتابة تجاربه وخبراته بالشكل الذي يراه مناسبًا، وألا يبخل على الإنسانية بتقديم كل ما يُمكِن من أجل خيرها وصلاح أمرها، ولنعلم جيِّدًا بأنَّ غيرنا قد قطع أشواطًا في هذا المجال، وما لم نتحرَّك في الاتِّجاه الصحيح، فمن الطبيعي أن يملأ الآخرون مناطق الفراغ التي نتركها.
السيد محمَّد علي العلوي
27 فبراير 2016 ميلادية