إنَّ طلبَ التطور والتكامل سِمَةٌ من سمات البشرية، وهو تطور وتكامل سواء كان في الاتِّجاه الصالح أو في الاتِّجاه الطالح؛ فعالم الدين يتكامل في علمه وتقواه وورعه وما نحو ذلك من فضائل، ومثله تاجر المُخدَّرات الذي يتكامل أيضًا في ابتكار طرق التهريب والتفكير في سبل سحقِ الغيرة على الإنسانية ومصائر الناس، فهذا ينمو وذاك ينمو أيضًا، والأوَّل بالنسبة للثاني متراجع ناقص، وكذا الثاني بالنسبة له.
وعلى أيَّة حال، ففي تحقيق التكامل أطرح طريقين لا تعارض بينهما ابتداءً:
الطريق الأول: الكشف عن المساحات السلبية والعمل على حصرها وإضعافها حتَّى تنحسر شيئًا فشيئًا وتنتهي إلى الزوال.
الطريق الثاني: الكشف عن المساحات الإيجابية، والعمل على تقويتها وتوسعتها شيئًا فشيئًا حتَّى يكونَ البروزُ لها والسيطرةُ لمظاهِرِها.
يتميَّزُ الطريقان بأنَّ قوَّة أحدهما تؤدِّي بالضرورة إلى إضعاف الثاني؛ فكلَّما توجَّه العمل إلى توسعة مساحات المظاهر الإيجابية وتقويتها، كُلَّما واجهت السلبيات تهديدًا مباشرًا يجبرها على التراجع والانحسار ابتداءً.
اعتدنا في أيَّام عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) التركيزَ على المظاهر السلبية، وهذا أمرٌ نحن في حاجة إليه، فالنقد والكشف عن السلبيات مقدَّمة مهِمَّة لمعالجتها، ولكِنَّنا نُخطئ كثيرًا عندَّما نُهمِل الإيجابيات التي تحملها هذه الأيَّامُ المعظَّمةُ ومثيلاتُها، والأكثر خطئًا أنَّ تركيزنا على السلبيات قد انتهى بِنا إلى الذهول عن الإيجابيات حتَّى وصل الأمرُ بالبعض إلى إنكارها مِنْ رأس، وما هذا إلَّا بسبب الإغراق السلبي.
عاشوراء..
أيَّامٌ تستقطب أمواجًا من النفوس في ظاهِرةٍ أجزم بعزَّتها، وقد يستغرب البعض من الادعاء التالي:
يطلبُ المؤمنون الأجر والثواب من مشاركاتهم في مآتم عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكِنَّ الذي أراه أنَّ طلب الأجر يأتي تاليًا بعد قضيَّة أكبر من أن يتناولها مقالٌ عابر..!
يتوجَّه المؤمنون إلى المآتم لرابطة عميقة قد تمكَّنت من المتديِّن الملتزم وغيره، وقد تمكَّنت من الصغير والكبير والغني والفقير والقادر والعاجز، وغيرِهم، وليست القضية كما قد نظنُّها روتينية ترجع إلى التعود والتقليد، فهناك من ترك الأمر وما عاد مكترثًا لا بعاشوراء ولا بغيره، ونسيته الناس في مثل هذه الأيَّام.
تعالوا في محاولة لتربيط بعض الخيوط..
كنَّا نسمعُ ولا زلنا عن بعض شاربي الخمر (والعياذ بالله)، وكيف أنَّهم يتوقَّفون عن هذه الرذيلة طوال أيَّام التحاريم (عشرة محرم)، وربَّما توقَّف البعضُ منهم إلى ما بعد شهر صفر.
يسخر البعض مِنْ هؤلاءِ، ولكِنَّ السخرية ليست في محلِّها؛ فهم لم يجبرهم أحدٌ على ترك الخمر في مثل هذه الأيَّام، ولكِنَّها أيَّام عظيمة في نفوسهم، وقد تُحدِثُ أثرًا في لحظة ما فتُرجِعُهم إلى رشدهم من بعد ضلال.. هكذا يؤمنون، وهكذا يعتقدون..
لقد شهدنا حالات كثيرة جدًّا لمنحرفين يستقيمون في أيَّام محرَّم، واليوم هم في مقدِّمة صفوف المُصلِّين طوال السنة.
يمتلك الإمامُ الحسين (عليه السلام) في أيَّام عزائه قدرةً مُذهِلةً على استيعاب الجميع بلا أدنى فرز، فهو يقبلُ المغرورَ والمتواضِعَ، ويقبلُ المُنحرِفَ والمُستقيمَ، ويقبلُ المُلحِدَ والموحِّدَ..
لا أبرِّر للطالحين، ولكِنَّني أريد التنبيه إلى أنَّ هذه الأيَّام مشحونَةٌ بأجواءٍ إيجابية قد لا نقوى على فهمها فضلًا عن استيعابها، ففي الغالب نحن نُسقِطُ ثقافاتنا وسلوكياتنا على أيَّام عاشوراء، فنصادر كُلَّ من نصادره في غير هذه الأيَّام، ونحاسبه كما نحاسبه في غيرها، والحالُ أنَّ عاشوراء الحسين (عليه السلام) تقرَّرت عَالَمًا للاحتضان وموسِمًا ثقافيًّا لا نظير له على الإطلاق.
نحن في حاجة متعاظمة إلى دراسة هذه الجاذبية المركزية العظمى لقضية عاشوراء وما تحمله من مسائل عجز عن تحقيقها العالمُ بمؤسَّساته ومنظَّماته ومختلف كياناته..
أيَّامٌ تتوحد فيها الونَّةُ تحت منبر النعي، وتنجَّذبُ فيها الأفهامُ بين يدي خطاب الوعظ والعلم والمعرفة..
أيَّامٌ تتميَّزُ فيها الضربة، فلا تتنافر ولا تتعاكس، فهي ضربة على الصدر واحدة تضبطها قصيدةٌ رِثائيَّةٌ يُلقيها واحد..
الكُلُّ في هذه الأيَّام يبذل بألوان العطاء، فهناك من يُعطي المالَ، وهناك من يُعطي الجُهدَ والطاقةَ في الخِدمَةِ وما نحوِها، وهناك من يبذل وقتَه في الحضور، وهذا الأخير له أثره ولو من باب تكثير السواد..
أكرِّر..
لا أُبرِّر لِمَن قد يكونُ وجودُه إساءةً للمظاهر الشعيرية، ولكِنَّني أُنبِّه إلى بعد آخر في الصورة لا ينبغي إغفاله.
ما أدعو إليه في هذه السطور هو أن نسعى إلى أن نكونَ بِشيءٍ من سِعة الإمام الحسين (عليه السلام) في استقطابه واستيعابه واحتضانه للجميع..
السيد محمد علي العلوي
17 أكتوبر 2015 ميلادية