الحسين (عليه السلام) وأزمةُ الثِقة

بواسطة Admin
0 تعليق

ها هي أيَّامُ كربلاء تدخل علينا بذكراها العظيمة المُعظَّمة؛ فهي الأيَّام التي سجَّلت أوضحَ مظهرٍ من مظاهر السفالة البشرية في أحقادها على السمو الإنساني، كما وأبرزت أجلى صورة من صور المصاديق الحيَّة لمعاداة الله تعالى (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)..

كربلاء..

قِصَّةُ حياةٍ كتبها الإمام الحسين (عليه السلام) بما قدَّم وبذل من دماء وقلوب وأحاسيس ومشاعر، انتصارًا للعقل والعلم والحكمة والنباهة..

قِصَّة لو أنَّنا نوفَّق لقراءتها قراءةً صحيحة، لفهمنا التاريخ والحاضر، ولاستشرفنا المستقبل ببصيرة كربلاء الحسين (عليه السلام)، غير أنَّ قراءتنا لها لُويَ عُنُقُها وحُشِرتْ في زوايا ضيِّقة فرضنا وحصرنا فيها المجتمع بثقافاته ومختلف توجُّهاته.

إنَّني أصبحتُ شاكًّا في دوافع إحياء ذكرى كربلاء، فهل هي لإحياء كربلاء بِما حملتْ مِنْ مضامين وقيم، أو هي إحياء لأفكارنا مستغلِّين كربلاء؟

لا شَكَّ في وجود الصدق والإخلاص، فالدنيا لا تخلو من أوتاد تحمل في وجودها الدائم لُطفَ اللهِ تعالى بهذه الأرض، ولكِنَّ الذاتوية في إحياء ذكرى الحسين (عليه السلام) أمرٌ لا يمكن إخفاؤه، كما وأنَّ التبرير له قد وصل إلى حدٍّ غير مقبول..

وهل تخفى تلك التيارات التي تنتظر هلال محرَّم لتثبت نفسها وتوجُّهاتها باسم الحسين (عليه السلام)؟

بل وحتَّى قيم كربلاء وفِكر الطف أصبحت عندَّهم موادَّ تجيير لذواتهم الشخصيَّة أفرادًا وجماعات، فظهرت حقيقة نحتاج إلى قراءتها بعناية فائقة..

فلندقِّق جيِّدًا..

هناك مجموعة من الرؤى في ما يخُصُّ طرائق إبراز كربلاء الحسين (عليه السلام)، فعندنا من يرى ضرورة التحوُّل بالمآتم إلى قاعات موسَّعة للمؤتمرات والندوات والمناظرات العلمية، وعندنا من يرى ضرورة التركيز على الدمعة والاهتمام بذكر المصيبة الكبرى، وبينهما من يعتقد بصحة الصيغة الحالية من محاضرة ونعي، وغير ذلك من رؤى..

وبالنسبة للمواكب والمظاهر العزائية المتقدِّمة، فمِنَ المؤمنين من يرى الكفاية في موكب اللظم فقط، وغيرهم لا يرى صِحَّة التهاون بموكب الضرب على الظهور بالسلاسل، كما وهناك من يرى في ضرب الرؤوس بالقامات والسيوف عمقًا شعيريًّا خاصًّا..

ومن الموالين أيضًا من يتوجَّه للإطعام وبناء المضائف وما نحو ذلك، وغيره يرى تكثيف النشاط في طباعة الكتب وتوزيعها وبيعها وما نحو ذلك..

المُهِمُّ في الأمر أنَّ تلك التوجُّهات والرؤى إمَّا أن تكون محكومة بقاعدة الإباحة الشرعية (كُلُّ شيءٍ لك حلال حتى تعلم بحرمته)، أو أنَّها محمية بفتوى مرجعية واضحة، كما وترجع المسائل كثيرًا إلى التشخيص الموضوعي، وهنا تقع معضِلَةٌ كبرى راجعة إلى مشكلة ثقافية عميقة، عنوانها: ضعف ثقتنا في بعضنا البعض!

أبدأ من عبارات بعضهم:

يقول صاحب التوجه (أ): لم أسمع قط عن مجتهد فقيه عالم عادل أفتى بحرمة (كذا).

ويقول صاحب التوجه المقابل: لم يشهد تاريخ التشيع فتوى صادرة عن مجتهد فقيه عالم عادل تجيز ذاك الذي يتحدَّث عنه (أ).

في الواقع هناك من يجيز وهناك من يُحرِّم، وكل بحسب اجتهاده، ولكِنَّ القضية أنَّ (أ) لا يرى من يقابله شيئًا، كما وأنَّ هذا الأخير لا يرى (أ) شيئًا، فهذا الفقيهُ الذي يرجع إليه الملايين يراه المقابلون (صفرًا) أو أقرب إلى (الصفر)، كما وأنَّ العكس بالعكس صحيح!

تبدأ القضيَّة إذًا بعدم الاعتراف باجتهاد ذاك العالِم، وإنْ خفَّفنا قليلًا فاعتراف باجتهاده (في غير هذه الفتوى)، ووفي حال بقائنا على الفرض الأوَّل فإنَّ النظر إلى مقلِّديه يدور على كونهم في ضلال؛ فمرجعهم ليس بمجتهد، ثُمَّ تُجَرُ هذه النظرة إلى عموم تصرُّفاتهم، فلا يُزوَّجون ولا يُصاهرَون ولا يُخالَطون إلَّا بحذَرٍ وتوجُّس..

ومشهدٌ آخر:

هذا مأتم يعقد منبرًا أسبوعيًا مثلًا، ومع بداية المجلس ينتقل الصوت إلى الخارج عبر المكبِّرات، فيستاء بعضُ الجيران..

يرفض القائمون على المأتم إخفاض درجة الصوت فضلًا عن الاكتفاء بالمكبِّرات الداخلية، كما ويرفض الجيران تفهم وضع المنطِّقة وأصالة المآتم فيها بمكبِّراتها، وفي أغلب الأحيان تغيب القدرة على التفاهم لإيجاد حلول أو قناعات جديدة، والواقع أنَّ المشكلة مشكلة ثِقة بين مختلف الأطراف، فأصحاب المأتم قد لا يثِقون في قوة الولاية عند المستائين، والمستاؤون لا يثقون في فهم القائمين على المأتم لقيم أهل البيت (عليهم السلام) وأخلاقهم وآدابهم..

وثالث:

في قضية المضائف وما أُثير حولها في السنوات القليلة الفائتة، فأصحابها لا يتنازلون عنها، ويرون المنتقدين أعداءً يريدون فرض أنفسهم على خيارات الآخرين، وهؤلاء لا يثقون في فهم بعض أصحاب المضائف لأحكام الإسراف والتبذير والاختلاط وما نحو ذلك..

قد أكون مخطئًا، ولكِنَّ الذي أراه هو أنَّنا نعاني أزمة ليست بالهينة..

هي أزمة ثِقَة في بعضنا البعض، وكلَّما تمادت الأيَّام دون التفات جادٍّ لما نعانيه من نزيف فكري عميق، كُلَّما استشرت الأزمة وزادت تقيحاتها باسم الدين ومن بوابة الإمام الحسين (عليه السلام).

يقول:
من لا يرى (كذا) فهو واهم..
من لا يفهم هذه (الأبجديات) فهو متطفِّل..

ومثلها من تعبيرات ملؤها الاستنقاص وضعف الثقة في الآخر..

كم من الزمن يا ترى نحتاج لتجاوز هذه الحالة والتمكُّن من ثقافة السعة الثقافية التي طالما تفاخرنا بها في مسألة فتح باب الاجتهاد؟

ليست القضية محصورة في ذكرى عاشوراء فقط، فهي وبأقل نظر نجِدُها في التربويات والاجتماعيات والسياسيات والاقتصاديات وغيرها، ولكنَّ ذكرى عاشوراء تتشكَّل منصَّةً للمواجهة المباشرة بين مختلف التيارات والتوجُّهات، فيبرز فيها عمق المشكلة التي نعانيها، وهي –كما أرى- ضعف الثقة في بعضنا البعض، بل وربَّما في أنفسنا.. ولا أستبعدها في دائرة أوسع من ذلك أيضًا، ولا أرى مفتاحَ الحلِّ في غير فهم واقع الحياة وقيامها الأصيل على نقص الإنسان من مختلف جوانبه، والعقل الرشيد يبعث صاحبه دائمًا على طلب الآخر للتكامل به وصناعة سعة إنسانية جديدة تتكامل مع غيرها، وهكذا تستمر الحياة في تطورٍ قوامه التعارف على أسس التقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

لا أراه قريب المنال، ولكنَّني أجده أملًا في جيلٍ قادم..

السيد محمد علي العلوي
28 من ذي الحجَّة 1436 هجريَّة

12 أكتوبر 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.