يعتمِدُ النظرُ في مثل علوم المنطق وأصول الفقه ملاحظة وتدوين طريقة العقلاء في تفكيرهم وتحليلهم ومخاطبتهم لبعضهم البعض، ومنها تُستَلُّ بعضُ المواد الأوليَّة لمسائل العلوم لتُحلَّل وتُنَقَّح ويُنظَرُ في سعة شمولها وصلاحيتها لأن تكون قاعدةً أو ضابطةً أو ما نحو ذلك..
ممَّا يعتمده العقلاءُ في تفكيرهم وضبطهم لقراراتهم قانون (تقدير الضرورات بقدرها)، أي أنَّ الأمر المفروض الذي لا يَتَمكَّن الإنسان من تركه، أو لا يحسن منه تركُه فإنَّه يتعاطى معه بقدَر ما يستدعيه المقام بلا توسُّع ولا تضيُّق، ولا إفراط ولا تفريط..
من هذا القانون العقلائي، وأقصد: قانون (تقدير الضرورات بقدرها) جاء العقلاء بقانون (قوَّة المُحتَمل). وبيانه:
لو كان (احتمال) الوقوع ضعيفًا، ولكن في حال (الوقوع) فإنَّ الأثَرَ حينها عظيم، يحكم العقل في مثل هذه الحالات بوجوب تقدير الموقف بحسب (قوَّة المُحتَمَل).
مثال: لو أراد شخصٌ قطع مسافةٍ في الصحراء في بدايات فصل الشتاء، وقال له أهل الخبرة أو الاختصاص: هناك احتمال تصلُ نسبته إلى ٥٪ بهطول أمطار غزيرة جدًّا.
نلاحظُ ضعفَ الاحتمال (٥٪)، غير أنَّ (المُحتَمَل) وهو (هطول الأمطار الغزيرة) لو وقع فعلًا فهو قوي وقد يُعرِّض الرجلَ لخسائر ومخاطر.
إنَّ لقوَّة المُحتَمَل موضوعيتها المُعتَبَرة في خيارات وقرارات العقلاء، وهو اعتبار مأخوذٌ فيها قول المختص وكونه متجرِّدًا وموضوعيًا في إخباراته.
وذلك، ثَمَّة أمور ينبغي الانتباه إليها..
لا يصح أن يتحولَ نظرُ العُقلاء إلى وسوسة وهوس عند غيرهم..
مثال: ليست البحرين من البلدان التي تسكنها حيوانات مفترسة، إلَّا أنَّ الجهات السياحية استوردت بعضها لحديقة الحيوان (العرين)، وهي منطقة بعيدة عن مناطق السكن، وفيها أعداد قليلة من بعض السِباع وما شابه..
ليس من المعقول أن نبني حياتنا وقراراتنا على اعتبار إمكان هروب الأسد!! ولو كان التعامل مع قانون (قوَّة المحتمل) على هذا النحو لفَنَتِ البشريةُ منذ قرون طويلة؛ إذ أنَّ وقوع الشرقةُ بسبب الأكل أو شرب الماء ليست ممتنعة، وقد تقع وتقتل!!
كما وأنَّ اعتبار (قوَّة المحتمل) لا يصحُّ أن يكون من مُؤثِّرات الإعلام وأقاويل غير أهل الخبرة أو أهل الاختصاص، وإلَّا فقد قيل قديمًا في أمثالنا الشعبية (عصّب راسك والكل يوصف لك دوا)!!
ولا يكون عاقلًا من يتأثَّر بتوصيفات الناس التي لا تُراعى فيها قواعد الدلالة ومقاصد كلام العاقل، وقد قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “لو سكتَ الجاهلُ ما اختلف الناس”.
وكذا فإنَّ مثل قواعد (قوَّة المُحتَمَل) مأخوذة مِن نظر وتعاطيات العقلاء، وهم أبعد ما يكونون عن الاستعجال في التصريحات والتعسُّف في التوصيفات، بل هم لا ينطقون إلَّا من بعد فحصٍ وتريثٍ وفهمٍ مستوعبٍ لواقع الحال.
كلمة أخيرة؛ الغايةُ منها تجنيب أنفسنا والناس مخاطر الاضطرابات النفسية والتشوهات الذهنية والثقافية:
الحذر مِن الالتقاطية في تكوين الفكرة والفِكر، فليس من العلم في شيء تركيب الفكرة من مجموعةِ معلوماتٍ مُلتَقَطةٍ، مصدرُها مواقع الانترنت وتصريحات المستعجلين وكلام أهل الاستحسانات والاستذواقات الشخصية..
تاريخ المنشور: 8 مارس 2020 للميلاد