قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)[مريم: ٥٦-٥٧].
إدريسُ (ع) كان صدّيقًا نبيًا كما تؤكّد الآية، وقال بعض المفسرين أن اسمه في التوراة أخنوخ، وهو جدُّ أبِ نبيّ الله آدم (ع)، وسُمّي إدريس لكثرة درسِه الكتب، وأنه أوَّل من خطَّ بالقلم، أما الكتاب في الآية فهو القرآن الكريم، وقد رفعه الله مكانًا عليًّا؛ أي عاليًا رفيع الشأن برسالات الله تعالى، فكانت له درجاتٌ عاليةٌ عندَ الله جلَّ وعلا.
ممّا قيلَ في إدريسَ (ع) أنه رُفع للسماوات ولم يمت كما هو حال روحِ الله عيسى (ع)، ولكنْ هناك أقوالٍ أخرى وردَ بعضها في الروايات، وبها بعض التفاصيل المختلفة، إلا أنها تتَّفق في وفاته (ع) بين السماء الرابعة والخامسة.
الشيء المشترك المهم الذي يُذكر في الروايات هو أنّ إدريسّ (ع) هو من طلب الصعودَ للسماء، وفي بعضها هو من طلب رؤية ملكِ الموت (ع)، وهو اللقاء الذي لم يرجع بعده إلى الأرض على اختلاف الأقوال بين قبضِ روحه في السماء أو سُكنَاه الجنة.
المسألة الأخرى التي تُلفت الأنظار في قضيّة هذا العبد الصالح قوله لأحد الملائكة طالبًا منه رؤية ملك الموت (ع): “تريني ملك الموت لعلي آنسُ به فإنه ليس يُهنِئُوني مع ذكره شيء”.
فلننظر لنبيٍّ من أنبياء الله ماذا يصنع به ذكرُ ملك الموت، وهو نبيٌّ صدّيقٌ معروفٌ بكثرةِ عبادته وزهده وورعه، وهو خليفة الله في أرضه وحجّته في زمانه، يقول: “ليس يُهنئوني مع ذكره شيء”، ولننتبه قليلًا لنرى ماذا يصنع بنا ذكر الموت؟ فإذا كان هذا حالُ إدريس (ع) النبي المعصوم، الذي تقول إحدى الروايات أنه عندما علِم بموته على لسان ملك الموت انتفضَ وسقطَ عن جناح مَلَكٍ يحمله، فكيف ينبغي أن يكون حالنا، ونحن المذنبون المسيؤن المقصِّرون؟
الموتُ لم يمهل أحدًا، والله تعالى لم يخيّرِ أحدًا سوى رسولِ الله (ص)، فتلك سنّة الحياة والقانون الذي جعله الله في هذه النشأة، لكننا مع ذلك، ومع مواعظ الموت التي نراها ونسمعها في كلّ يوم، لا نزال في غفلة، لا نعدُّ العدة، نعمل وكأنَّ الدنيا باقيةٌ لنا، وليت شعري لمن البقاء، وهذا محمدٌ قد مضى، وعليٌّ وفاطمةُ والحسنان عليهم صلواتُ الله وسلامه.
كما أكرِّر مراتٍ ومراتٍ، أنت يابنَ آدم في هذه الدنيا عابرُ سبيل، ورأسُ مالك الوحيد هذه الأيام التي تعيشها، وزادُك بعد الرحيل عملك فقط، ولا شيء آخر، فمتى تُفيق من غفلتك، وتنتبه للمراد منك في هذه الدنيا الزائلة.
أنا وأنت وغيرُنا نمشي بأرجلنا وأنفاسنا نحو الموت المحتوم، وليس أوضحَ ممَّا جرى على نبيّ الله إدريس (ع) شيءٌ، فالصورة تتمثَّل أمامي وكأنَّه يطلبُ ساعةَ رحيله، فيطلب لقاء ملك الموت، بل في إحدى الروايات طلب أن يذوقَ طعم الموت، وأنت ترى أنّه لم يعد لهذه الدنيا بعد ذلك..
هكذا مضى إدريسُ (ع)، فهل أنت أعزّ عندَ الله وأرفع منزلةً حتّى تأمنَ على نفسك؟!
ذكرُ الموت تنبيهٌ من الغفلة، ونحن غالبًا ما نكون في غفلة، فلنكن ممَّن يتِّعظ بذكر الموت..
محمود سهلان
٢ شوال ١٤٣٩هـ
١٦ يونيو ٢٠١٨م