اتفقنا على المراسلة الخطية، بأن يكتب كلُّ واحدٍ منَّا للآخر بخطِّ يده، ثُمَّ يضع الرسالة في ظرف ويودعها صندوق البريد العادي بعد دفع قيمة النقل طوابِعَ بريدية تُلصق على الزاوية العليا من ظهر الظرف..
هكذا كان ظُهر اليوم، وقد سبقني بالأمس أحد الأصدقاء ممن يعيشون خارج البلاد.
كنتُ من هواة المراسلة وجمع الطوابع عبر بعض المجلات الورقية الجميلة والمفيدة جدًّا، وبالرغم من اعتيادي حينها على إرسال الرسائل وتلقيها من أصدقاء على امتداد الدول العربية، إلَّا أنَّ طعم الكتابة ومذاق القراءة لا يتغير تجددهما أبدًا؛ فذاك الذي يراسلني قد اقتطع ساعة من وقته، وبذل جهدًا راقيًا بقلمه، ثُمَّ أنَّه صرف بعض المال لشراء الطوابع، وذهب بالرسالة إلى البريد قاصدًا إرسالها لي، ومن بعد ذلك يبقى في انتظار تفوحُ من روائحُ الشوق الطيبة حتَّى يصله مكتوبي، وربَّما أهديته صورة قد كتبتُ على ظهرها إهداءً جميلًا مؤرَّخًا، فيجيبني هو بصورة له خطَّ على ظهرها كلمات الصداقة الراقية..
كلُّ هذا ولم يكن بيننا لقاءٌ بعد، ولكن قد يكون أن يزور هو البحرين صحبة أهله، أو أزور بلده صحبة أهلي فنلتقي..
كم كانت حياةُ المراسلة جميلة أنيقة هادئة صافية.
يأخذني الحنين لتلك السنين، فأذهب إلى ملفاتي لأتصفح تلك الرسائل الجميلة من عُمَان.. مِصر.. الأردن.. اليمن.. العراق.. سوريا.. الكويت.. المغرب.. السودان.. وغيرها..
كلمات بسيطة ملؤها البراءة والطيبة والجمال..
يشتدُّ بي الحنين، فأذهب إلى ملف الرسائل لوالدي الغالي (رحمه الله)، وأبحر بين المئات منها منذ خمسينات القرن المنصرم وصولًا إلى التسعينات عندما طُرِحَ الإنسان صريعًا بأسلحة التقنية وما أسموه (تقدمًا وتطورًا)..
جفافٌ شديد، وعُطاشٌ مُنهِك.. الدفاتر تعاني، والأوراق تحتضر..
اليوم، نحن مجموعة جميلة تربطنا صداقة متينة، ناقشنا حالنا ومعاناتنا بسبب هذا التدافع المخيف لقاتلات الانسجام بين طبيعة الإنسان والانتظار.. شيئًا فشيئًا تفقد الأشياءُ جمالها وتستوحش عن طعمها.. وأوَّلها… الإنسان..
قرَّرنا العودةَ إلى المكاتبات الورقية، وأن ننتظر الردود بشكل طبيعي جدًّا ودون أدنى استعجال.. قرَّرنا أن نعتني ببعضنا البعض، لا برسائل الكترونية دون طعم، ولكن بخطِّ اليد الذي يحمل الكثير الكثير الكثير من المعاني الحالية والتوثيقية، ففي الغد سوف نشمُّ، ويشمُّ أولادنا طيب صداقاتنا، كما أشمُّ اليوم صداقات الأمس.. رائحة والدي وجمع كبير من الأهل والأصدقاء..
انتظر اليوم رسائل من أعز الأصدقاء، ويكفيني فخرًا أنَّهم يمنحوني ساعة خاصة تتجسد صدقًا ووفاءً في حروف أقلام حقيقية.. لا (الكترونية)!
تكلف الطوابع للرسائل الداخلية 210 فلوس، ولأوروبا قرابة 500 فلس، ولأمريكا في حدود 600 فلس.. اشتريتُ مجموعة من الطوابع وأخذت قائمة بتسعيرات النقل، فكان اليوم من أجمل الأيام.. بـ210 فلوس فقط، لا يستطعم جمالها إلَّا (المتخلفون) أمثالي.. وربَّما أمثال أصدقائي..
أقول.. مرحا مرحا، فليس أحلى من (تَخَلُّفٍ) نرجع به وفيه إلى.. الإنسان.
السيد محمَّد علي العلوي
23 من ذي القعدة 1438 هجرية