تحدَّثتُ في المقال السابق[1] حول الكليات الخمس (الجنس، النوع، الفصل، العرض الخاص، العرض العام) ومستوى برهانيتها من حيث الانتظام على الخالق جلَّ في علاه، وفي هذا المقال أُبيِّنُ -إن شاء الله تعالى- ضبطها المُحكم لتوالي العِلَلِ والمعلولات، ثُمَّ الانتهاء برهانًا إلى إثبات الغنى المطلق للخالق تبارك ذكره.
أقول:
المتحرِّكُ بالإرادة أعمُّ من أن يكون ناطقًا (الإنسان) ومن أن يكون غير ناطق (سائر الحيوانات غير الإنسان)، ولا يمكن مطلقًا أن يدخل تحت المتحرِّك بالإرادة نوعٌ خارجٌ عن (الحيوانية) الناطقية وغير النطاقية، والضابط هو نفس الجنس (المتحرِّك بالإرادة)؛ إذ أنَّه الحدُّ الأعلى للناتج عنه (النطاق وغير الناطق من جنس المتحرِّك بالإرادة).
بعبارة أسهل:
جنس (الحيوان) أعمُّ من الإنسان ومن غير الإنسان من سائر ما تلجه الحياة من المتحرك بالإرادة، يعني: تصدق الحيوانية على الإنسان والفرس والغزال والسمك والطير… ولا يمكن للماء -مثلًا- أن يدخل تحت جنس الحيوان المتحرِّك بالإرادة؛ لأنَّ الماء ليس حيَّا، وبالتالي فإنَّ الحيوانية (الجنس) هي المُحدِّدَة للأنواع الواقعة تحتها، وكلُّ ما يقع تحتها لا يخرج عن حدِّها.
عندما ننتقل إلى المتحرِّك بالإرادة (الحيوان) نرى أنَّ المقابل له (غير الحيوان)، وكلاهما يرجعان إلى جنس النامي، فهو أعم منهما، وهما لا يخرجان عنه.
والنامي يقابله غير النامي، ويرجعان إلى الجسم الأعم منهما، وهما لا يخرجان عنه.
والجسم يقابله غير الجسم، وكلاهما يرجعان إلى الجوهر، وهو جنس الأجناس الأعم منها جميعًا.
ملاحظة:
يحتاج القارئ الفاضل لاستيعاب هذا التوضيح السالف استيعابًا جيدًا؛ لتوقف فهم النتيجة في خاتمة المقال عليه.
الجنس مفهوم كُلِّي يشتمل على مطلق الماهيات المشتركة، ولا شكَّ في المجانسة بينها جميعًا، من جنس الأجناس (الجوهر) إلى أدنى الأنواع، والجميع مُضْبَطٌ بحدود الجوهر.
هنا أرجو الانتباه جيِّدًا..
تتحرَّك المعلولات عن عللها في داخل إحكام حدود الأجناس، وكلُّ شيءٍ فيها مهما دقَّ معلولٌ لغيره المجانس له مباشرة. فيأتي السؤال التالي:
إذَا كَانَتْ مُشَجَّرَةُ الأجْنَاسِ واقِعًا مِنْ عِلَلٍ ومَعْلُولاتٍ، فإمَّا أن تكون هي كلَّ الوجود، أو لا، والأوَّل مُنتقض بنقصها؛ إذ أنَّ الثابِتَ انتِظَامُ الأجناس من الأعم نازلًا، كما بينَّا قبل قليل، واعمُّها الجوهر حدٌّ للماهيات المُدركة ذهنًا والمتشخصة بما يعرض عليها، فقابل العرض الجوهر، وكلاهما موجود، وهذا الموجود إمَّا أن يكون مثل ما دونه من جهة الاحتياج إلى مُوجِد، أو لا، فإن كان الأوَّل تسلسل، والتسلسل باطل.
بعبارة أسهل:
هل هذا الوجود الذي نعيشه فيه هو نفس سلسلة العلل والمعلولات التي نتحدَّث عنها؟
هذه السلسلة ناقصة ذاتًا؛ فمكوناتها من العِلَل والمعلولات محتاجة في وجودها لبعضها البعض، وأعلى السلسلة الجوهر، الحدُّ الحقيقي لكلِّ ما دونه من ماهيات، والجوهر يظهرُ بِمَا يعرض عليه مثل الطول والعرض والعمق وما نحو ذلك من عوارض، فقابل العرض الجوهر، وكلاهما موجود فعلًا. فهل يحتاج هذا الوجود لِمُوجِد أو لا؟ إن كان محتاج لِمُوجِد تسلسل، والتسلسل باطل.
بيان البطلان:
لو نظرنا إلى سلسلة العِلَل والمعلولات كوحدة واحدة فالأمر لا يخلو أن تكون مفتقرة في وجودها إلى علَّة أو لا، واستغناؤها محال؛ إذ أنَّ كلَّ مكوناتها مفتقرة إلى بعضها البعض، فنفس العِلَّة معلولة من جهة أخرى لعلَّة غيرها، وهكذا فإنَّ النقص والافتقار في الوجود حقيقةُ سلسلة العلل والمعلولات، وبالتالي فإنَّ وجودها راجعٌ إلى موجود غيرها، ولا يمكن أن يكون المُوجِد نفس السلسلة لا كلًّا ولا جزءًا، لاستحالة توقف الشيء في وجوده على نفسه، فيثبت بالضرورة خروج المُوجِد لسلسة العلل والمعلولات عنها، فإن كان معلولًا في وجوده لغيره، دخل معها، فيرجع الكلام إلى أوَّله، فيثبت استغناؤه عن المُوجِدِ.
النتيجة:
تقدَّم أنَّ الموجود يتحدَّد تكوينًا بحدود علَّته، فإذا استغنى في وجوده عن عِلَّة تُوجِده، ثبت خروجُه المطلق عن الحدود؛ لِعَدَمِ المُحدِّد أصلًا.
وهو من جِهةٍ أخرى خارِجٌ عن سلسلة الأجناس، ومستغنٍ في وجوده عن علَّة، فهل له جنس خاص؟ وهل له ماهية؟
هذا ما يأتي بيانه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
السيد محمَّد علي العلوي
14 شعبان 1438 هجرية
[1] – نَظَرِيَّةُ الفوضَى فِي قِبَالِ بُرهَانِيَّةِ الكُلِّيَاتِ الخَمْسِ على الخَالِقِ جَلَّ فِي عُلَاه: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4409