لستُ ولا القارئ الكريم في حاجة إلى التكرار، فطالما دار الحديث حول التعدُّدية وطبيعتها وحدودها وأهمِّية الاعتناء بها وتوجيهها بما يكفل تحقيق أهمّ غاياتها، وهي التكامل الثقافي والفكري في المجتمع.
بالفعل، فهو أمرٌ قد طال الحديث عنه، ولم أجد من يعارضه، بل الواضح أنَّ مختلف التيَّارات والتوجُّهات تتبنى طرحة التعدُّدية وتنادي بها ولها، ولكنَّ أمرًا يبدو مرتبِكًا ويحتاج إلى بحث، وهذا ما يكشف عنه السلوك النقضي الصادر عن نفس من ينادي بالتعدُّدية ويدعو لها.
نعم، نحن وبمختلف أطيافنا نرفع شعارات التعدُّدية، ولكنَّ المشكلة – كما أراها – في الأجواء المحيطة بفتح الأبواب أمام الآراء الأخرى، وهي في الغالب لا تسعى إلى التكامل والترقِّي، وهمُّها – الذي أراه – هو الاستقطاب الجماهيري وسحب الأفراد وتضعيف الآخر بأنواعٍ من الضربات، فتارة من فوق الحزام، وأخريات من تحته، وهكذا يتبادل دعاة التعدُّدية ألوانَ النقض على ما يدَّعون، فتثبت الازدواجية راسخةً ماكِنَة.
لا يجد بعضُ المؤمنين مفرًّا من الوقوع في دائرة الخوف من الآخر، ولا يهمُّ كونه صادقًا ومخلصًا ومعتدلًا، فمجرد انتمائه أو نسبته إلى تيار معين أو توجُّه ما، يكفي للخوف والتحرُّز منه؛ إذ أنَّ الأصل في المقام هو سوء الظن حتى يثبت خلافه، وهذا الأخير يكاد أن يكون مستحيلًا إن لم يكن مستحيلًا فعلًا، حتى لو ملأ (المُتَّهمُ) الدنيا صراخًا بخلاف (موضوع التُّهمة)!
لو أنَّني أعمل على البحث عن أصول هذه المشكلة، لاتُّهِمْتُ من البعض بالسوداوية وممارسة التقريع والتوبيخ مع المؤمنين، وهذا في الواقع مما يُعَقِّد المشكلة أكثر، ولكن وعلى أيَّة حال، لا مهرب من البحث والنظر؛ فالقضيَّة تحاصرنا جميعًا، وكلُّنا مسؤولون..
أطرح سؤالًا:
هل نحن في أطيافنا وتياراتنا نحب مجتمعنا ونخشى عليه الضرر والسوء؟
الجواب – كما أراه -:
تشهدُ مصادراتُنا لبعضنا البعض، وخوفُ أحدنا على جماهيره من استقطاب الآخر، وما في سياق ذلك من سلوكيات، على عدم أو ضعف شعورنا بالمسؤولية تجاه المجتمع؛ فالخوف والحذر من بعضنا البعض ولَّد ثقافات وسلوكيات وتصرفات غاية في السوء بالرغم من تلبُّسها بلباس الدين تارة والوطنيَّة أخرى وكذلك الفكريَّة والثقافيَّة، وهذه انتهت بنا إلى تنازعات أدَّت إلى توليد الفشل، وهذا ما قاله تعالى في كتابه العزيز (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
وربَّما كان هناك من يشعر بالمسؤولية ويسعى لتحمُّلها، ولكنَّه لا يرى غيره إلَّا مسيئًا مفسِدًا، ولا يعتقد بإمكانية الخير من غير تيَّاره أو الجهة التي ينتسب إليها، وبالتالي يتساوى وسابقه الذي لا يشعر بالمسؤوليَّة أصلًا.
أُرجِعُ هذه الذاتوية (Autism) إلى أمرين أساسيين:
الأول: ضعف الانفتاح العلمي المعرفي.
الثاني: الضعف الشديد في الثقة بالنفس.
أمَّا الأمر الأول فهو مولِّدٌ قوي لحالة الاستيحاش من الآخر؛ فالتراجع في الانفتاح العلمي المعرفي هو تراجع في الواقع عن المعرفة بالإنسان وما يحمل في داخله من قوى نفسانية تعطيه الحقَّ أن يمارس التواصل الاجتماعي ثقافيًّا وفكريًّا، وهذه القوى تواجه منعًا صارمًا من الآخر، كما وأنَّها ترتبك عنيفًا بالسلوكيات والممارسات المضادة من نفس صاحبها، وهكذا يدخل الإنسان في ازدواجيات شرسة تشوِّهُه أيَّما تشويه.
وأمَّا الأمر الثاني فيدور حول قضيَّة (سحب البساط) وما يأتي في سياقه من عناوين غاية في الرخص، ولكِنَّنا وبكل أسفٍ نعيشها..
ما أفهمُه هو أنَّ القويَّ في نفسه لا يخشى الأفكار الأخرى، كما وأنَّ سعادته لا تقاس عند اكتشافه لخطأ عنده فيسعى إلى تصحيحه، سواء كان المُصَحِّح مراجعةٌ ذاتيَّةٌ أو حِوارٌ مع الآخر، وهذه هي القوَّة التي أفهمها وأعي جمالها، وهي دافعة دائمًا للبحث عن الآخر المختلف لتحتضنه في حوارات ونقاشات تسمو بها وترتقي معها، وبالمقابل فإنَّ التراجع فيها يعني تراجعًا في نسبة الإقبال على الآخر، وكلَّما زاد هذا التراجع كلَّما تحول الآخر إلى عدو متَّهم بأنَّه يسعى إلى (سحب البساط) واستقطاب الناس، ولن يتمكَّن (الضعيف) و(ضيِّق الأفق) من التسامي عن هذا الشعور الخانق، فهو منحصر فيه ولا يقوى على الخروج من شرانقه!
يبدو أن الحل واضح، فارجع – سيدي – إلى الأعلى.
ملاحظة: لا تقف هذه الحالة عند قضية التيارات والتوجهات الفكرية سياسية كانت أو دينية أو غير ذلك، ولكِنَّها موجودة بقوَّة في مختلف مساحات الحياة، فهي حاضرة بين الزوجين، وبين الإخوان، وبين الأصدقاء…
فتأمل جيِّدًا..
السيد محمد علي العلوي
17 يوليو 2015