شهدتُ، كما غيري، الكثير من الحوارات والمناقشات، منها السياسية ومنها الاجتماعية ومنها الرياضية وما يتعلق بالبطولات والدورات، ولا شكَّ في أنَّ مخالطة الناس تنطوي على الكثير من الفوائد المباشرة وغير المباشرة، أمَّا المباشرة فمن قبيل الاستفادة من أساليب المناقشات والمناظرات والاطِّلاع على سعة التقاطعات والمتوازيات والمتعاكسات بينهم، وأمَّا غير المباشرة فمثل اتخاذ المشهود واسطة للكشف والتعرُّف على ما يمكن التعرُّف عليه من خلاله، فعدم استيفاء المواضيع حقَّها في الحوار، والتنقل من موضوع لآخر، دالٌّ على خِفَّة المجموعة وتراجعها عن القدرة على ضبط الأذهان بالشكل المطلوب، وهذه الخفَّة تكشف عن أمور أخرى، وهكذا..
خرجتُ من مجموع الحوارات والنقاشات التي شهدتُها بنتيجة (غير جيدة) عن الثقافة الذهنية العامة، وتقع في عنوانين:
- العنوان الأول: زاوية النظر:
في أكثر الموارد وجدتُ كُلَّ واحِدٍ من المتحاورين يخوض الحوار محبوسًا في ذاته، فهو ينظرُ ويَزِنُ ويُحاسِبُ ويحكُمُ على غيره من داخل نفسه وبحسب موازينه وقوانينه ورؤاه الخاصة.
لو أنَّنا نتمكَّنُ من جمع كلَّ نتاج ثقافي وفكري أنتجه الإنسان على مرِّ التاريخ، وإبعاده عن الأسماء والانتماءات، لخرجنا بعد عمليَّة بحثية علمية بإرث علمي يتجاوز كثيرًا ما عليه البشرية اليوم من تقدُّم، ولكنَّ البلاء الذي يأكل في جسدنا العلمي هو انغلاق العقول على نفسيات ضيِّقة لا تقوى على تقبل الآخر فضلًا عن استيعابه، وهذه الحالة تخضع وبشكل كبير إلى قانون الفعل وردِّ الفعل، فكما أنَّ الآخر يعاملني من منطلقاتِ ذاتِه، فأنا أيضًا أعاملُه من منطلقاتِ ذاتي، وهكذا يعيش الإنسان في مجتمعاتنا مشكلة الذاتيَّة في التعامل مع غيره، وبالتالي فنحن لا نجد طريقًا لحلِّ الكثير من مشاكلنا المعضلة، والسبب هو هذا الانغلاق الثقافي والفكري على الذات.
- العنوان الثاني: الطبيعة الذهنية العامة:
تتميَّزُ الذهنيَّة العامة بقيامها على مجموعَةٍ مُتزَاحِمَةٍ من المتناقضات، فمثلًا، الإنسان في مجمعاتنا يشعر بأنَّه قادر على مناقشة كلِّ شيء، ويتحرك وكأنَّه يمتلك الكفاءة المطلوبة للتغيير والتصحيح، وفي نفس الوقت يحمِّل غيره مسؤولية ما للتو أراد الظهور بأنَّه الحمَّال له!
هذا النوع من التناقضات سبَبٌ مباشِرٌ في إصابة الإنسان فردًا ومجتمعًا بالتعب والإنهاك، فهي تُفقِدُه التركيز على المعاقد المهِمَّة في القضايا التي يعيشها؛ وهي تحتاج إلى ذهنيَّة حاضرة قادرة على التركيز والتحليل والانتقال من الأوسع إلى الأضيق ومن الأضيق إلى الأوسع في عمليات تبادلية متَّسِقة، ومن الواضح أنَّ مثل هذه العمليات تحتاج إلى طاقات ذهنية سالمة من مثل التناقضات التي مرَّت الإشارة إليها.
للأسف الشديد، فالمجتمع يعاني تبلُّدًا ذهنيًّا كبيرًا، وهذا بالرغم من ارتفاع نسبة التعليم الجامعي والشهادات العليا، ممَّا يدل على أن هذا الأخير ليس أكثر من جزء علَّة للمُكْنَة الذهنيَّة المطلوبة للنهوض بالمجتمع.
ألسُنٌ في غاية القدرة على صياغة الأفكار، وأذهانٌ تحتضن محيطات من المعلومات والأرقام، وعيونٌ تمرُّ على الكثير من الصحف والمقالات والدراسات بشكل يومي، ولكِنَّها عند المناقشة ومحاورة الآخر، ترجع إلى انغلاقها الذاتي وبشكل تلقائي سريع، ثُمَّ تبدأ أنتاجَ التناقضات، والنهاية –كما هو المعتاد- إلى (لا نتيجة) غير زيادة مستوى الاحتقانات والأزمات.
هل ننجح في معالجة هذه الإعاقة الثقافية الفكرية؟
الجواب: نعم، بشرط الرجوع إلى العلم ومقاصد العلم، والتفاعل معها تفاعلًا إنسانيًّا بعيدًا عن (الأنا) الخانقة لكلِّ إبداع فكري.
وبكُلِّ بساطة: طالما أنَّك تحدِّثُ الآخر، فكونه الآخر يعني بالضرورة أنَّه ليس (أنت)، كما أنك لست (هو).
يشتمل الإنسان في جنبات وجوده الثقافي الفكري (الإنساني) على قدرات تغييرية كبيرة تؤهله للتحرك بقوة في اتجاه التحول الإيجابي نحو التصحيح، ومن الخطأ أن يستصغر الواحد منَّا نفسه ويستسلم للواقع الخاطئ.
ولذلك، فهذه السطور لا تعكس نظرة سلبية للمجتمع بقدر ما هي محاولة لتشخيص الواقع والمساهمة في إبراز ما يحتاج فيه إلى تصحيح، ومنه أدعو القارئ الكريم للتركيز على الظهور الموضوعي قدر الإمكان، فكلُّنا في مركب واحد نطلب له النجاة.
السيد محمد علي العلوي
4 يوليو 2015