لاشك في أن للنص المعصوم محل الريادة في الفكر الإيماني القويم، فهو فكر يقوم على كليات قرآنية وعمومات عتروية لا ياتيها الباطل على الإطلاق، إلا أن لبعضها وقع خاص عندما تستشعر القلوب خطورةَ دلالاتها، منها قول الله العزيز القدير: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)، وعلى نفس النسق يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه)، وفي السياق يقول أبو عبد الله الصادق (عليه الصلاة والسلام): (من خاف الناسُ لسانَه فهو في النار)، وعنه (صلوات الله وسلامه عليه) انه قال: (المؤمن اعظم حرمة من الكعبة)..
لست في ريب من وصول الرسالة لكل مَنْ مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بقلب مستفيق يحتضن هذه المضامين الشامخة دونما أدنى مقاومة شيطانية كتلك التي يرفعها الصادُّون بمجرد أن يلحظوا ظلال مثل هذه الفاضحات السماوية مقبلة تريد القبض على قلوبهم المنهكة بالبعد عن تقوى الإيمان وورع التسليم، ولكنني أريد الضغط على بعض مناطق الألم لعلنا نتمكن من طرد شيئ من السموم التي بسطت قاتليتها على قلب المجتمع فعاثت فساداً وتمزيقاً.
هذا والرسول الأكرم يقولها صريحاً بأن: “المؤمن من آمنه الناس على أنفسهم وأموالهم”، ولكن الشيطان اليوم أبى إلا أن يخترق هذه الأبنية التقوائية التي أرادها الله تعالى للإنسان حتى يتميز بها عن الأنعام والسباع، والحال أنه وجد القابل فعشعش وفرخ حتى طغى الرين على القلوب وطُمَّت الأوعية بأشكال الكدورات، ولم يكن كل ذلك صدفة، فالأمر مدروس والقضية مخطط لها بمسطرة وقلم..!!
فلنلاحظ جيداً..
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم كتاباً اشتمل على مختلف الفنون والعلوم حتى أن شيئاً لم يكن ليخرج عن حدوده أبداً، فقد قال فيه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، وهذا يعني أن اتخاذ الكتاب العزيز مصدر تقعيد أصيل يعني خروج الإنسان من كل حيرة وضلال، وذلك لأنه (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) وياتي الإنسان في مقدمة هذا (الكل) بماهو حاكي عن مجتمع يراد له من السماء أن يكون مجتمع فضيلة وخير، ولذلك نرى بأن المولى سبحانه وتعالى أولى بيانَ طرق السلامة المجتمعية الكثير من الأهمية، وهذا مفهوم، فالإنسان المجتمع محور هذا الوجود الدنيوي.
في هذا البعد الأهم أوضح الله تعالى نظرياً والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عملياً الأساس في بناء المجتمع الإيماني الصالح، وهو أساس الأخوة، فقد قال المولى عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وعملياً فمن منَّا لم تأخذ قلبه حالة الإخاء التي اجرها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه في مدينته المنورة فلم يكن للعرق أو الأصل معيارية في النظر إلى الناس حتى أن الأرواح تجاوزت فارسية سلمان ورومية صهيب وحبشية بلال وعربية أبي ذر فتعانقت محلقة في سماء الأخوة الإيمانية الصادقة.
لاشك ولاشبهة في أن الشيطان الرجيم يدرك حقيقة هذه الصورة التي بتحققها يولي هو وجنوده الدبر دون رجعه، وهذا مالا يرتضيه لنفسه الإبليسية القذرة، لذا هو مؤسس في عمله على مضمون ما (يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) فيكون التفريق بين الأخوين والأخوان أسهل وأيسر، أما الطريق فليس غير النميمة والغيبة والفتنة والقذف والرمي إشباعاً لحالات لا عاقبة لها إلا السوء، وهذا تصريح بين من الباري جلَّ ذكره حين يقول: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فيبقى الخوف من وقوع المؤمنين في حبائل أولئك المجندين الذين قطعوا عهداً مع قيادتهم العلياً على أن ينسفوا من بين الناس قاعدة أرادها الله تعالى للحياة الطيبة، وهي قاعدة أمن الجانب، ولذلك ترى أن سعيهم موجهٌ وبشكل دقيق إلى تفتيت أواصر الثقة بضرب جذورها، ونسوا أن هذا الفعل في حد ذاته كاشف عن حقائق كثيرة ومهمة، أبرزها أنهم سجلوا أنفسهم في قائمة غير مأموني الجانب، وبالتالي فقد طردوا أنفسهم من دائرة الإيمان والمؤمنين، وهذا واضح جداً بعد أن حولوا أنفسهم إلى مستنقعات لا يُعلم أي تجرثم تتقيحه مياهها الآسنة.
إن الشواهد (العالمية) على هذه الحالات الشيطانية تغنينا عن جهد الاستدلال وطلب البيان، حيث إن العالم قد جند قواته الإعلامية والمخابراتية من أجل تحقيق هذا المطلب وهو سحق الثقة وقتل التواثق، وليس عليك من جهد إلا أن تفرغ نفسك لأيام تتابع فيها هذا الكم الهائل من المسلسلات والأفلام التي تكرس لهذه السلوكيات القبيحة جداً، فهناك أب يخون أبوته، وهنا ابن يوقع بأبيه، ومن بينهما صديق يُهلك صديقه… والحبل على الجرار..
إنه واقع.. نعم هو واقع، ولكنه لا يهمنا أبداً، بل نحن نراه واقعاً حشرياً بعد أن أدركنا الطريق عند فقدان مأمون الجانب، وهو طريق الجانب المأمون دائماً.. إنه طريق الله سبحانه وتعالى ووعوده الراسخة في نفوس المؤمنين فقط..
قال سبحانه فيما يحكيه عن إقرار الشيطان الملعون: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وقال: (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ)، وقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وقال: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
بعد هذه الوعود والتصريحات الإلهية فإنه لا يبقى مجالاً للخوف أو القلق من ألاعيب الشيطان وجنوده، حيث إن السلاح الأعظم هو سلاح الخلوص والصدق في النيات، وعندها فقط نرى يد الغيب وهي تتحرك لنصرة المؤمنين ولو بعد حين
السيد محمد علي العلوي
28 جمادى الآخرة 1431 هـ
11 يونيو 2010 م