في الغالب نرى النَّاس على صنفَين في أطراف التَّأييد، فالأول متشدِّدٌ للأول، والثاني كذلك، ولكنَّنا لا نعدم من وجود صفوةٍ تقف على حقائق الموضوعات، فتتبوَّأ المنزلة التي تبيح لها الإدلاء بالرَّأي الصَّائب المقارب للحقيقة والواقع، دون أن تصهر عقليَّتها ضمن الطَّرَفَين السَّابقَين.
عندما يدخل المعزِّي على أهل العزاء في مأتمهم ويخاطبهم: جعله الله آخر أحزانكم، ينبري من يُشكل عليه بأنَّ هذه العبارة دعاءٌ عليهم بالموت عاجلاً؛ لأنَّ الدُّنيا دارُ بلاءٍ وفناء، محفوفةٌ بالمصائب والأحزان، فلا يتحقَّق الدُّعاء إلاَّ بالخروج من هذه الدُّنيا لئلاَّ يصطدم بحزنٍ مقبِل.
في الطَّرف الآخر، فإنَّ كثيرًا مِمَّن يقرأ ويتعلَّم شيئًا من العلم، يتنبَّه لبعض الأخطاء -فعلاً، أو بحسب ما يتوهَّم- التي كانت تُمارس في مجتمعه، فتأخذه شهوة التَّصحيح والتَّعليم، ويقوم بالتَّغيير في كثيرٍ من العبارات التي كان بالأمس يستخدمها مع أبناء بلده وجلدته، إلى مستحدثةٍ غريبةٍ عليه وعليهم، والدَّاعي له هو رفع مستوى الوعي في المجتمع، والمُداقَّة في كلِّ شاردةٍ وواردة، لئلاَّ يستوي هو وغيره ممن يجهل ما تعلَّمه من علم!، ولكن سرعانما يأتيه ردٌّ صارخٌ صارمٌ بألاَّ يبتدع لفظًا حديثًا وتعبيرًا مغايرًا للمألوف المشهور المعروف، والسَّابقون أفهم منك وأعلم، فلم تفُتهم هذه الإشكالات المتوهَّمة التي دعتك لتغيير العبارات.
***
في الواقع أيُّها الأحبَّة، وبحسب ما يبدو للنَّظر، فإنَّ كثيرًا من رجالات الطَّرف الأول عالمون بواقع دلالات كلماتهم، ولكن قد يكون بعضهم بحاجةٍ لشيءٍ من الإلفات والتَّنبيه، شأنه شأن التَّنبيه للمعلوم الضَّروري الذي لا يُمكن الجهلُ به، وكثيرًا من حاملي الرَّاية الثانية ينطوون على نوايا حسنة ونبيلة في تطبيق أجلى صور العلم والتَّعليم، وتنكُّب وعورة الطرق في الألفاظ والعبارات.
فبعضٌ من هؤلاء، ومن هؤلاء، على حقٍّ، ولكنه -والله العالم- قد غاب عنه شيءٌ من المقاصد الأصليَّة، والظُّروف والقرائن المحيطة بالكلام والمتكلِّم، فتراه ينظرُ بموضوعيَّةٍ بحتَة للعبارة، ويضعها في الميزان، ويجري عليها أدوات تفسير الكلام المعروفة في العلوم الآليَّة، فإن وافقت، وإلاَّ فالرَّفض أقرب وأولى السُّبُل، والثاني يرى خيرًا كثيرًا في السَّابقين، فيقتفي أثرهم، ويقتدي بهديهم، ولا يخالف لهم أمرًا أجمعوا عليه واشتهر بينهم، بل ويرى من قلَّة الأدب ونكران المعروف هجرُ تراثهم وتركُ كلامهم.
والواقع أنَّ الهدوء والرُّكود في تقييم العبارات هو الأوفق، فعندنا الشيء الذي يحتاج لتصحيحٍ وتقويمٍ، ولكن على مستوى الفهم والوعي، وتبقى العبارة الدَّالة عليه موردًا للتَّسامح، ومن هنا نفهم قولهم: لا مُشاحَّة في الألفاظ؛ أي بعد العلم بالحقيقة، فإنَّ اللَّفط لا يعدو كونه دالاًّ ومؤشِّرًا.
وكذلك فإنَّ عددًا من التعابير المستحدثة -نسبيًّا- قد حسُن وجودها، وألِفتها النُّفوس والألسنة، ولا بأس بإيرادها مرادفةً ومقوِّية وموضِّحة لحقيقة المقام، وبذلك يُستغنى عن هتك التُّراث والتَّشنيع عليه.
***
هذا كلُّه فيما لو لم يلزم أيُّ محذور من العبارة، وإلاَّ كان لِزامًا أن تُغيَّر ويؤتى بالمستحدث الصَّحيح؛ لأنَّ الباطل يبقى باطلاً، ولا يمكن التَّمحُّل له.
ومِمَّا ينفع الاستشهاد به للأوَّل ما ورد في الخبر من قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما، فقيل: يا رسول الله، كيف أنصره ظالمًا؟ قال: تردُّه عن ظلمه، فذلك نصرك إيَّاه”[1]، فإنَّ العبارة وقعت محلَّ تحيُّر بين من كان في محضر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهي أصعب قبولاً من كثير من العبارات التي تُتداول اليوم، ولكنَّه (صلَّى الله عليه وآله) أوجد لها تفسيرًا صحيحًا، ويبقى أنَّ العبارة لا مُشَاحَّة فيها.
ولكن في الطَّرف الآخر روى ثقة الإسلام الكليني (أعلى الله مقامه) في كافيه الشَّريف حديثًا رفعه إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآل)، قال: “لمَّا زَوَّج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السَّلام) قالوا: بالرّفاه والبنين، فقال: لا، بل على الخير والبركة”[2]، فإنَّ هذه ونظائرها من ترسُّبات الجاهليَّة التي حاربها الدِّين الحنيف أيّما محاربة، فلا تسامح فيها.
وخلاصة القول: إنَّ معرفة حيثيات ومقامات الكلام، وإدراج (التَّسامح في التَّعبير) في موضوعيَّة النَّظر، هو من أوفق الطرائق التي يمكن أن نتَّخذها في التقييم، فما كلُّ قديم يجب تحديثه، وما كلُّ حديثٍ يجب قمعه وتفنيده، بل المداقَّة العلميَّة التي يكون مدارها الذهن هي المطلوبة؛ للوقوف على مبلغ عالٍ من الوعي، وبعد ذلك فلا يؤذينا التَّعبير بهذه اللَّفظة أو بتلك في الأعمِّ الأغلب.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطَّاهرين.
أحمد نصيف البحرانيّ
غرَّة ربيع الثاني لعام 1441 للهجرة
……………………………………..
[1] مسالك الأفهام، للشَّهيد الثَّاني، ج3، ص195.
[2] الفروع من الكافي، للشيخ الكليني، ج5، ص568.