ترجعُ الزيادةُ في البيان والتوضيح لما كُتِبَ أو قِيلَ إلى ما يفيض به المستمعون أو القرُّاء من استفسارات أو إشكالات أو إيرادات، وما شابه ممَّا يبعث صاحبَ الرأي على التعقيب ببيانات توضيحية أعم من تأييد الوارد أو معارضته، وبذلك تبدأ الفوائد في التنامي والإزهار بما يعود على العلم والمعرفة بالخير الكثير.
إنَّه وبعد نشري لمقالي الأخير الموسوم بعنوان (دور الإجازات الروائية في وعي وحفظ وصيانة العباد)[1] وردني من أحد طلبة العلم الأجِلَّاء سؤالٌ حول مرادي ومقصدي من (تكوُّن الشخصية التحقيقية)، فوجدتُ ما لبسط الكلام جوابًا من أهمية في توضيح ما أرمي إليه من الكتابة في إعادة الاعتبار للإجازة الروائية.
يتحدَّثُ كثيرون حول التحقيق وما للكتب المُحقَّقة من مزايا جعلتها خيارًا أوَّلًا لطلبة العلم، بل قد يُحجِمُ الطالِبُ عن شراء الكتاب ما لم يكن مُحَقَّقًا؛ لكون المُحقَّق هو الأقرب إلى ما تركه المُؤلِّف، فالتحقيق لغة “إحكامُ الشيءِ وصحَّتُه”[2]، وجاء أنَّه “حَقَّ الأمرَ تَحَقَّقَهُ، صار منه على يقين، وتَحَقَّقَ عنده الخبرُ: صَحَّ”[3]. أمَّا اصطلاحًا فإنَّ الكِتابَ المُحَقَّق هو “الذي صَحَّ عُنوانُه، واسمُ مُؤلِّفُهُ، ونِسْبَةُ الكِتَابِ إليه. وكان مَتْنُهُ أقربَ ما يكون إلى الصورةِ التي تَرَكَهَا مُؤلِّفُهُ”[4].
وبذلك ينحصر التحقيق في طرفين؛ المُحَقِّقِ فاعِلًا، والمُحَقَّقِ مفعولًا، والنتيجةُ كِتابٌ محفوظ بأدوات الصيانة التحقيقية، فيستفيد من هذا العمل الباحثون الذين لا يحتاج مُكَوِّنُهم الشخصية إلى التحقيق لا تجرِبَةً ولا خبرَةً، بل يكفيهم وجود من يقوم بالعملية التحقيقية فيعتمدون على نتاجه في أن تكون المعلومة المستقاة أقرب ما تكون إلى الصحة من حيثيات مختلفة.
إنَّ الباحِثَ في الخَليَّة -مثلًا- يهمُّه التوفُّر على كتاب يشتمل على آخر من ما توصلت إليه الأبحاث العلمية في خصوص هذا الشأن، وقد لا يحتاج كثيرًا إلى تتبع تاريخ المسألة، ولذلك يكتفي ببعض المصادر المُحقَّقة.
ليس الأمر كذلك بالنسبة لطالب العلوم الإسلامية؛ إذ أنَّ مسائِل هذه العلوم الجليلة تُقال وتُدون في سياقات خاصَّة من الظروف والمتحولات السياسية والاجتماعية وما نحو ذلك ممَّا يدخل بأشكال مباشرة وغير مباشرة في الكثير من جهات وحيثيات مادَّة وموضوع التحقيق، ما يستدعي أن يكون نفسُ الباحِثِ ذا عقلية تحقيقية مُتقدِّمة ذهنًا وحِسًّا.
إنَّ للأوضاع السياسية والأمنية أدوارًا مباشرةً في إخفاء بعض النصوص أو أجزاء منها، أو عدم تدوينها إلَّا في فترات أو عصور متأخرة، وهذا أمر يعسر على الأدوات التحقيقية الكشف عنه ما لم تكن محكومةً بِعَقليةٍ تحقيقيةٍ ناضِجَةٍ، وهذه لا تظهر في مجرَّد المقابلة والإرجاع والتخريج، ولكنَّها تسطع بقوَّة في حاشية التعليقات التحليلية والبيانية عندما تقرأ الموضوعية الماورائية للمادَّة محل التحقيق.
من السهل أن تنتهي الأدوات التحقيقية بالمحقق إلى القول بوقوع الإرسال في سند واقِعةٍ أو حديثٍ أو روايةٍ ما -مثلًا-، إلَّا أنَّ هذا عند العقلية التحقيقية الناضجة ليس أكثر من مرحلة أوَّلية من مراحل التحقيق، أمَّا الظهور التحقيقي المطلوب فهو في الجواب عن سبب أو أسباب الإرسال؛ فليس كلُّ إرسالٍ مُسقطٌ لاعتبارية السند، بل قد يكون الإرسال أو مجهولية أحد الرواة قرينة على صحة الحديث[5]، ولذلك فإنَّ التحقيق عند العالِم ليس من الشهوات العلمية، بل هو من أهمِّ مكونات شخصيته الخاصَّة.
إنَّ للاقتصار في الإجازة الروائية على المشيخة وذِكر الطرق الكثيرَ من المضار الثقافية التي أفقدت الإجازة اعتباراتها المهمَّة، وزد على ذلك أنَّها أبعدتْ، وتُبعِدُ الأذهان الوقَّادة والأفهام العالية عن استيعاب وفهم ما للرواية من أهمية عميقة الغور، واسعة الجهات.
عندما يُجَازُ طالبُ العلِم في الرواية على الوجوه المعتبرة الصحيحة، فإنَّ الظروف السياسية والاجتماعية وما نحوها مأخوذةٌ في نفس الإجازة، وهذا ما يُبينه المُجيز في مقدماتها، فنعلم العوامل التي دخلت في تكوين وصياغة عقلية كل من المُجيز والمُجاز، وهذا ما يراعيه المُحقِّقُ ويوليه عناية كبيرة في عمله التحقيقي، لا من جهة تحليلية فحسب، ولكن من جهة دراية أطراف الإجازة بما هم فيه وما له الأثر في خلق واقعهم.
قال الفقيهُ الشيخُ جعفر بن الشيخ محمَّد أبو المكارم الستري العوامي القطيفي في مقدَّمة إجازته للفقيه السيد مهدي بن السيد علي الغريفي البحراني النجفي:
“وأشدُّ ما قَصَدَ ببلائه أهل البحرين، ورماهم من بين العالم بالداء الدفين، وأكثر فيهم القتل الذريع، والنهب والتشتيت والتصديع، ورماهم بالزلازل والحال الفظيع، من الوقائع التي تُشيِبُ الرضيعَ، فلم يطيقوا لما عراهم حملًا، وألزم نفوسهم منه كربات وثقلًا، وأُشرِبَتْ قلوبهم بوقعهِ وَجَلًا وذُلًّا، فحينئذٍ رأوا في ترك الأوطان والفراق، راحةً لقلوبهم من معاناة ما لا يُطاق، حيثُ وجدوا أنَّ نفسوهم باللبث عليه للبلايا تُساق، فرحلوا منها تحت دُجى الغيهب، وسلكوا في بطون الأودية والرحب، وذهبوا في أقاصي بلاد الله شُعبًا، وتشتتوا في أقاصيها وأدانيها عن أوطانهم أيدي سبا، حتَّى كأنَّ غُرابَ البينِ في أظعانهم قد نَعَب، وصاح صائِحُ الفِراق في شملهم فانصدع وما انشعب”، إلى أن قال:
“فتِلك المحاريب تبكي لِرُهَّابِهَا، والصلاةُ تحنُّ لمِحرابِها، والمساكِنُ تئنُّ شوقًا لسُكَّانِها وأربابها، ومسائلُ العلمِ تشكو الخلل لرؤابها، ومشاكل المعضلات ترتقب فتح أبوابها، والمُثَوِّبُ قائمٌ بالنداء على فناء عرصات معابدهم وأعتابها …”[6].
أقطَعُ دون أدنى تردُّد بأنَّ الشيخ المُجيز لم يذكر ما ذكر ترفًا، وكذا غيره من مشايخ الإجازة الذين يُصرُّونَ على ذكر الأحوال وتقلبات الدهور والأيَّام في متن إجازاتهم؛ كيف، ولتوثيق الأحوال، فضلًا عن الأحداث أهمية محورية في وضع النصوص على مساراتها، وإرجاعها إلى سياقاتها، وهذا هو مادَّة النضج التحقيقي.
عندما أطلق الشيخ أبو المكارم اسم (ملتقى البحرين) على إجازته للسيد الغريفي، أراد، فيما يراه النظر القصر، التنبيه إلى أمر في غاية الأهمية، بل له أهمية قصوى، فهو بحراني والسيد الغريفي بحراني، وكلاهما ممن مرتهم يد النوائب بقواذفها، فكانت الإجازةُ ملتقاهما من بعد شتات، وفيها اجتمع بحران مِنَ البحرين. كم هو عظيم أمر الإجازة الروائية وما تشتمل عليه من أسرار وخفايا جليلة..!
بين أيدينا الكثير من الأمور المهمَّة التي لا تضبطها غير العقلية العلمية التحقيقية الناضجة، ولذلك نجد اعتماد فقهائنا الأعلام على مخطوطات الكتب وطبعاتها الحجرية والقديمة، ويقومون هم بالمقابلة واستخراج الخفيات، واقتناص المستترات، ويطرحون ما ينتهون إليه في بحوث الخارج من بعد وقوفهم العلمي الدقيق على أحوال وظروف العلماء، ويكون ذلك من أهم مميزات الدرس التي تكون عند المجدِّين من طلبة العلم من عوامل ترجيحٍ يُسعى إليها ويُبحث عنها، وهذا ما كان عليه سلفُنَا الصالحُ من العلماء الأبرار الذين شرَّفَهم اللهُ تعالى بمناصب حراسة الدين ورعاية المؤمنين.
هاك ما نقله العلَّامة المجلسي (نوَّر الله مرقده) من إجازة بعض الأفاضل لبعض تلاميذه:
“وبعدُ، فإنَّ فُلانًا بعدما قرأ عندي جملةً من كتب العلم، وقَابَلَ لديَّ عدَّةً من كتب الحديث، وظهر جدُّه واجتهادُه وقابليتُه واستعدادُه وأهليتُه لنقل الحديث وروايته، بل لنقده ودرايته وفهم نكاته ومعانيه، والإحاطة بظواهره وخوافيه، التمس منِّي الإجازةً تَبَرُّكًا باتصال سلسلة الخِطاب، بالذين هم قدوة أولي الألباب، وعندهم علم الكتاب …”[7].
تِلكَ أزمِنَةٌ ما كان فيها طالِبُ العلم، بل العالم، ليجرؤ على الاستجازة ما لم يكن بالمستوى الذي يُشهَد له فيه بالفضل العلمي النوعي، وهو ما نسعى لإظهاره وإبراز معالمه في هذه المقالات التي ندعو فيها إلى إعادة الاعتبار إلى الإجازة الروائية.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
27 ربيع الأوَّل 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………….
[1] – http://main.alghadeer-voice.com/archives/5511
[2] – ابن فارس، مقاييس اللغة، ج2 ص15
[3] – الرازي، مختار الصحاح، ص148
[4] – عبد السلام هارون، تحقيق النصوص ونشرها، ص29
[5] – الكاتب: بينتُ هذا الأمر في كتاب: تحرير المسائل.. رسالة في مبادئ دراية الحديث
[6] – ملتقى البحرين، وهي إجازة الشيخ جعفر بن الشيخ محمَّد أبو المكارم الستري (1281 – 1342 للهجرة)، للسيد مهدي بن السيد علي الغريفي (1301 – 1343 للهجرة)، تحقيق: محمَّد أمين أبو المكارم، ص 127 – 128
[7] – بحار الأنوار – العلَّامة المجلسي – ج105 ص89