المِلاكَاتُ وحِكمَةُ التسليمِ، وامتحانُ الحديثِ الشريف

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَلاةُ والسَلامُ على محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين

ثلاثة مواقف رسمتْ وجْهَ التاريخِ، أوَّلها قول الملائِكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)[1]، وثانيها استكبار إبليس عن السجود لآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[2]. والثالث (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ)[3].

إنَّ الجهة في تَمَيُّزِ هذه الأحداث عن غيرها من الأحداث الكبرى على مرِّ التاريخ اشتراكُها في مسألة الخروج على إرادة الله تعالى وحكمته، ولو خروجًا على مستوى المحاورة والاستفهام كما في الحادثة الأولى. وفي قبالِ كُلِّ خروجٍ يقع فعلٌ يتشكَّل به مسير هذه الحياة الدنيا.

ردَّ الملائكةُ على الله تعالى ردًّا بيَّن المعصوم (عليه السلام) طبيعته؛ إذ جاء عن ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابنا، عن أحدِهما (عليهما السلام)، أنَّه سُئِلَ عن ابتِدَاء الطواف، فقال (عليه السلام):

“إنَّ الله تبارك وتعالى لمَّا أراد خلق آدم (عليه السلام) قال للملائكة (إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)، فَقَالَ مَلَكَان من الملائكة: (أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء)، فَوَقَعتِ الحُجُبُ فيما بينهما وبين اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكان تبارك وتعالى نُورُه ظاهرًا للملائكة، فلمَّا وَقَعَتِ الحُجُبُ بينه وبينهما عَلِمَا أنَّه قد سَخطَ قولهما، فَقَالا للمَلَائِكَةِ: ما حِيلَتُنا وما وجْهُ تَوبَتِنَا؟

فقالوا: ما نَعْرِفُ لكُمَا مِنْ التَوبَةِ إلَّا أنْ تَلُوذا بالعرش.

قال: فَلَاذا بالعَرشِ حتَّى أنْزَلَ اللهُ تَعَالى تَوبَتَهما ورُفِعَتِ الحُجُبُ فيما بينه وبينهما. وأحبَّ اللهُ تبارك وتعالى أنْ يُعبَدَ بتلك العبادة؛ فَخَلَقَ اللهُ البيتَ في الأرض وجَعَلَ على العباد الطوافَ حوله، وخلق البيتَ المعمُور في السَمَاءِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يومٍ سَبعُونَ الفَ مَلَكٍ لا يَعُودُون إليه إلى يومِ القيامة”[4].

والظاهر أنَّ الله تعالى يُبغِض كلَّ ما دون التسليم المطلق للحق، ولو كان في درجة الاستفهام فحسب، ويؤيدُ ذلك شَرطُ العبد الصالح على نبي الله موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) بالتسليم في قوله: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)[5].

هي نوع من التسليم المتبوع بحقيقة العلم، فيكون من مظاهر الحِكمة ووضع الشيء في موضعه.

في المِفصل الثاني استنكر إبليسُ تفضيلَ اللهِ تعالى لآدم المخلوق من الطين عليه وهو المخلوق من النار، ما يُظهِرُ قطعَه بأفضلية النار على الطين (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[6]!

وفي الثالث سرعان ما اختار آدمُ وحواءُ (عليهما السلام) الشجرة طلبًا للخلود أو ليكونا مَلَكَين (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[7]، هذا وقد كان التحذير الإلهي لهما مباشِرًا في قوله تعالى (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)[8]، ولذلك عاتبهما بشدَّة بعد ارتكابهما للمعصية، فقال جلَّ في علاه (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ)[9].

  • مسألة المِلاكات:

قال في لسان العرب: “وقُطْبُ كُلِّ شيءٍ مِلاكُه”[10]، وفي الصحاح “وقِوام الأمر أيضًا: مِلًاكُه الذي يقوم به”[11]، ويُقال: “هذا قِوامُ الأمرِ ومِلاكُه الذي يقوم به”[12]، وهو (المِلاكُ) حقيقةٌ ثابتةٌ في الوجدان، قد تكون في متناول التفاتات الإنسان وقد تكون محجوبة تكوينًا أو بحسب التقديرات والقضاءات.

عندما يندفع إنسانٌ لإنقاذ غريق لا يعرفه، فإنَّ قِوامَ وعِمادَ فعله والقطب الذي يدور قرارُه عليه هو: إنقاذ النفس المحترمة، بل وتجنيبها الخطر والألم، وهذه حقيقةٌ يُجيب بها بمجرد الالتفات الوجداني. ونفس هذه الحقيقة قد تحجبها أفعالٌ يرتكبها الإنسان فتؤدِّي به إلى قساوة القلب وغلظته، ما يمنع عن تحركه بما يوافق الانبعاث عن مِلاك موجود فعلًا.

أمَّا في مِثل الصلاة المفروضة، أو الطواف حول البيت سبعة أشواط، فمِلاكات هذه العِبادات قد تكون محجوبة عن الإنسان لبعدها عن طبيعته الإدراكية، وهو ما أسميتُه بالحَجْبِ التكويني.

إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ الكثير من المِلاكات لا يتمكن الإنسان من إدراكها؛ لأسبابٍ تكوينيةٍ أو لسوء تقديراته ما انتهى به إلى قضاءات تُبعده عن الحقائق، وعلى الإنسانِ أن يُدرِكَ هذا الواقع إدراكًا واعيًا؛ ليُجَنِّبَ نفسه الوقوع في مكابرات ومعاندات في قبال ما تقتضيه مِلاكات الخير والصلاح.

لذا، جاءت العشرات من الأحاديث عن أهل بيت العِصمَةِ (عليهم السلام) يُؤكِّدون فيها على تَمَيُّزِ المُسَلِّمين بِحصر النجاة فيهم.

عن ابن يحيى عن الكاهلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه تَلَا هذه الآية (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[13]، فقال:

“لو أنَّ قومًا عَبَدُوا اللهَ وَوَحَّدُوه، ثُمَّ قَالُوا لِشَيءٍ صنعه رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): لو صَنَعَ كذى كذى[14]، وَوَجَدُوا ذَلِكَ في أنْفُسِهم، كانوا بذلك مشركين. ثُمَّ قال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا). قال: هُوَ التَسلِيمُ في الأمور”[15].

وعن كامل التمَّار، قال: كنتُ عند أبي جعفرٍ (عليه السلام) وحدي، فَنَكَّسَ رأسَه إلى الأرض، فَقَالَ: “قد أفْلَحَ المُسَلِّمُونَ؛ إنَّ المُسَلِّمِينَ هُمُ النُجَبَاءُ. يا كَامِلُ، النَاسُ كُلُّهُم بَهَائِمُ، إلَّا قَليِلٌ مِنَ المُؤمِنين، والمُؤمِنُ غَريب”[16].

قد تكون (مِن) للتبعيض من المؤمنين، فيكون التخصيص للمُسلِّمينَ مِنَ المُؤمنين.

وجاء عن زرارة بن حمران، قال: “كان يُجَالِسُنا رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِنَا، فَلَمْ يَكُن يَسْمَع بِحَدِيثٍ إلَّا قال: سَلِّمُوا. حَتَّى لُقِّبَ، فَكَانَ كُلَّمَا جَاءَ قَالُوا: قَدْ جَاءَ سَلِّمْ. فَدَخَلَ حمرانُ وزرارةُ على أبى جعفرٍ (عليه السلام) فقال: إنَّ رَجُلًا مِن أصحابِنا إذا سَمِعَ شيئًا مِنْ أحَادِيثكم قال: سَلِّمُوا. حَتَّى لُقِّبَ وكَانَ إذا جاء قالوا: سَلِّم. فقال أبو جعفرٍ (عليه السلام): قَدْ أفْلَحَ المُسَلِّمُونَ؛ إنَّ المُسَلِّمِينَ هُمُ النُجَبَاء”[17].

ترجعُ عقيدةُ التسليم إلى مبدأ تصديقي هو مِلاكات الأمور موضوعًا، والقطع بعدم انكشاف أكثرها للعقل البشري حملًا.

  • الجعل والتشريع في ظرف تزاحم المِلاكات:

هنالك بعضُ التشريعات يصعب على الإنسان استساغتها؛ وما ذاك إلَّا لبعده عن مِلاكاتها، أو الجهة التي من أجلها رجح مِلاكٌ على غيره، منها أنواع الحدود من رجم وقطع ورمي من شاهق وصلب وتقطيع من خلاف، ما يتعدَّى العقاب فيها حدَّ الجاني لينال من متعلقيه كالأب والأم والولد والزوجة والعشيرة!

إنَّ لهذه التشريعات قوَّة حاسمة في المحافظة على حياة المجتمع والنأي به عن الجرائم والجنايات وأنواع الانتهاكات؛ وفي قبال هذه الغاية التي تستوعب كلَّ المجتمع زمانًا ومكانًا يُصبَر على تعدِّي العقاب حدَّ الجاني تعدِّيًا على نحو الثاني وبالعرض؛ لتحدُّدِه في جزء بسيط جدًّا من المجتمع زمانًا ومكانًا، ولا شكَّ في أنَّ أيَّ عاقل لن يُرجِّح مِلاك حياة جزء من المجتمع على حياة كلِّ المجتمع، وقد قال تبارك ذكره (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[18].

هذا مع التأكيد على أنَّ تلكم الحدود لا تُقام إلَّا من بعد تحقيق العدل والمساواة بين الناس، ومن بعد سد أبواب الفساد والانحراف، فلا يكون لأحدٍ عذرٌ أن يتركب جريمة مهما قلَّ وتضاءل خطرُها.

ما تقدَّم لا يعدو الاحتمال، وإلَّا فقد يكون مِلاكُ القِصاص أو الحدِّ أمرًا آخر، فسواء اقتنع الإنسانُ بتشريع الله تعالى في هذا المورد أو لم يقتنع، فإنَّه إن كان مُؤمِنًا مُسلِّمًا تلقَّاه بالقبول متيقنًا بتمحض الحكمة فيه؛ لعلمه الراسخ الثابت بقصوره عن الإحاطة بكامل الحقيقة، وأنَّ ما يستند له التشريع الإلهي منحصِرٌ في المُحكَمِ المُحكَّمِ الذي لو انكشف للعاقل لحكم على وفقه قطعًا.

وقَعَ الملكانِ، وإبليسُ، وآدمُ في الخطأ والمعصية بسبب تحكيمهم لما يرونه مِلاكًا؛ أمَّا الملكان فكان بناؤهما على انحصار الغاية من الخلق في التسبيح والتحميد والتقديس على الطريقة التي عليها الملائكة، وعلى كفاية الفساد وسفك الدماء للامتناع عن الخلق الأرضي؛ (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[19].

وذهب إبليسُ إلى أنَّ مِلاك التفضيل راجِعٌ إلى جِنس الخِلقة، فقال فيما يحكيه عنه الكتاب العزيز (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[20].

فيما صدَّق آدَمُ وحوَّاءُ بِمَا ذَكَرَهُ الشيطانُ لهُمَا سببًا لمنعهما عن الشجرة (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[21].

من هنا تظهر خطورة مجرد الاستفهام إن لم يكن في محلِّه، ولنا في قصَّة نبي الله موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) مع العبد الصالح خير عِبرَة ومِثال حق.

  • حديثُ أهْلِ البيتِ (عليهم السلام):

أفتحُ هذا الباب بحديثٍ شريفٍ يعصِمُ الوقوفُ على فقهه عن الضلالِ ويُبعِد عن الانحراف ويخلص المُؤمِن من شرور التعسفات.

عن سفيان بن السمط قال، قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): “جُعِلْتُ فِدَاكَ، يأتِينا الرجلُ مِنْ قِبَلِكُم يُعْرَفُ بِالكَذِبِ، فَيُحَدِّثُ بالحديث فَنَسْتَبْشِعُهُ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يقولُ لكَ إنِّى قلتُ الليلَ إنَّه نهارٌ والنهارَ إنَّه ليلٌ؟

قلتُ: لا.

قال: فإنْ قَالَ لَكَ هذا إنِّي قُلْتُهُ فَلَا تُكَذِّب؛ فإنَّك إنَّما تُكذِّبُنِي”.

من جهةٍ فإنَّ الرجل الحامل للحديث يُعرَف بالكذب، ومن جهة أخرى يستبشع الناسُ الحديث، إمَّا لعلَّة فيه، وإمَّا لكون راويه معروفًا بالكذب. إلَّا أنَّ جوابَ الإمام (عليه السلام) جاء حاسمًا بشكل غير متوقع!

أفاد (عليه السلام) بأنَّ هذا الراوي عنهم (عليه السلام) حتَّى لو حدَّث بما يراه كافَّةُ الناس مخالفًا لأبسط البديهيات، كما لو قال أنَّ الإمام (عليه السلام) يقول لليلِ نهارًا وللنهارِ ليلًا فلا يُكَذَّب، وإنْ كُذِّبَ فالمُكَذِّب له مُكذِّبٌ للإمام (عليه السلام)!

في حديث آخر عن علي السناني، عن أبي الحسن (عليه السلام) إنَّه كَتَبَ إلَيهِ في رِسَالَةٍ: ولا تَقُلْ لِمَا بَلَغَكَ عَنَّا أو نُسِبَ إليَنَا هَذَا بَاطِلٌ وإنْ كُنْتَ تَعرِف خِلافَهُ؛ فإنَّكَ لا تَدْرِي لِمَ قُلنَا وعَلى أيِّ وَجْهٍ وَصِفَةٍ”[22]. فاتَّضحَ رجوع المِلاكات إلى وجوه قد لا نُحيطُ بها، بل في الغالب نحن لا نحيط بها، ولذا كان التسليمُ رأسَ الفضائِلِ وسنام الكمالات.

قد يُقال: في هذا الحديث تجويز للكذب، فالإمام (عليه السلام) يذم من يُكذِّب الكاذب في روايته عن أهل البيت (عليهم السلام).

فنقول:

أوَّلًا: لا يشير الإمام (عليه السلام) إلى الراوي، بل إلى المروي، يأمر بعدم ردِّه مهما كان حاله.

ثانيًا: عدم التكذيب لا يلازمه الأخذ وترتيب الأثر، إلَّا أنَّ التكذيب مبغوضٌ لهم (عليهم السلام).

ثالثًا: توَلَّى أهلُ البيت (عليهم السلام) رحمةً ولطفًا من الله جلَّ في علاه أمرَ الكذِبِ عليهم، فقنَّنوا الرواية تدوينًا وإثباتًا وتثبُّتًا، وبذلك لم تصمد عشرات الآلاف من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة في مكوثها إلَّا قليلًا، وهي اليوم لا عَينَ لهَا ولا أثر[23]، فما يبدو لي أنَّ إرادتهم (عليهم السلام) كانت في اتِّجاه دفع الناس عن اقتحام ما تكلَّفوا هم (عليهم السلام) وبعضُ خواصهم بمعالجته، وهي إرادةٌ نجدها في أحاديث الإحالة إلى الكتاب العزيز؛ من جهة أنَّها غير مقدورة (الإحالة) لغير العارِف بمحكم الكتاب ومتشابهه، وظاهره وباطنه، وعامِّه وخاصِّه، وناسخه ومنسوخه.

رابِعًا: لو سلَّمنا بعدم صدور الحديث عنهم (عليهم السلام)، إلَّا أنَّنا لا نسلِّم بأن لا يكون المِلاك في نفس عدم التكذيب.

  • وجوه الحديث:

صرَّح أهلُ بيت العِصمَةِ (عليهم السلام) بتكاثر الوجوه التي تُفسَّر بها أحاديثهم الشريفة، فما يظهر لزيدٍ قد لا يظهر لِبكر، ولو أنَّنا نكامل بينهما لظهر وجهٌ ثالثٌ لم يكن ليظهر لأحدهما لو لا الجمع، وهكذا..

عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: “حَديثٌ تَدْرِيه خَيرٌ مِنْ ألفِ حَديثٍ تَرويِه، ولا يَكُونُ الرَجُلُ مِنْكُم فَقيهًا حتَّى يَعْرِفَ مَعَاريضَ كَلامِنا، وإنَّ الكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِنَا لَتَنْصَرِف على سَبعِينَ وجْهًا، لنَا مِنْ جَميعِها المخْرَجُ”[24].

لا شَكَّ في عمق حكومة هذا الحديث على كلِّ ما يُرَدُّ من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تكذيبًا؛ حيث إنَّ التكذيب يعرضُ بملاحظة وجهٍ أو وجهين أو ثلاثة.. أو عشرة، والحال أنَّه قد ينصرف على غير هذه الوجوه، ولا يصحُّ من أحدٍ القطع بتكذيبه للحديث بعد إصابته لكافَّة الوجوه.

الحديثُ كونه امتحانًا:

يتميَّزُ أهلُ بيت العِصمَةِ (عليهم السلام) برجوع كلامهم إلى حقائِق العلم وأصول المعرفة، فكان عميقًا لا يصحُّ لأحدٍ أن يقتحم غماره ما لم يكن على درجات من الاستعداد.

عن يحيى بن سالم الفرَّا، قال: “كان رجلٌ مِن أهلِ الشام يَخدمُ أبا عبد الله (عليه السلام)، فَرَجَعَ إلى أهلِه، فقالوا: كيف كُنْتَ تخدم أهلَ هذا البيت، فهل أصبت منهم عِلمًا؟

قال: فَنَدَمَ الرجلُ، فَكَتَبَ إلى أبى عبد الله (عليه السلام) يسأله عن عِلْمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ.

فَكَتَبَ إليه أبو عبد الله (عليه السلام): أمَّا بَعدُ، فإنَّ حَديثَنَا حَديثٌ هَيوبٌ ذَعُورٌ، فإنْ كُنْتَ تَرَى أنَّكَ تَحتَمِلُهُ فاكتُب إلينا. والسلام”[25].

وعن جابر، قال: قال أبو جعفرٍ (عليه السلام): قال رسولُ الله (صلَّى اللهُ عليه وآله): “إنَّ حديثَ آل محمَّدٍ صعبٌ مُستصعبٌ، لا يُؤمِنُ بِهِ إلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أو نبيٌّ مٌرسَلٌ أو عبدٌ امْتَحَنَ اللهُ قلبَهُ للإيمان، فما وَرَدَ عليكم من حديثِ آلِ محمَّد (صلَّى اللهُ عليه وآله) فَلانتْ لهُ قُلوبُكُم وعرِفتُمُوه فاقبلوه، وما اشمأزتْ مِنْهُ قُلوبُكُم وأنكرتمُوه فَردُّوه إلى الله وإلى الرسولِ وإلى العَالِمِ مِن آلِ محمَّد. وإنَّما الهَالكُ أنْ يُحدِّثَ أحدُكم بشيءٍ مِنه لا يحتمله، فيقولُ: واللهِ ما كان هذا.. واللهِ ما كان هذا! والإنكارُ هُوَ الكُفْرُ”[26].

ممَّا ينبغي التنبه إليه في هذا الحديث الشريف قوله (عليه السلام): “وإنَّما الهَالكُ أنْ يُحدَّثَ أحدُكم بشيءٍ مِنه لا يحتمله، فيقولُ: واللهِ ما كان هذا.. واللهِ ما كان هذا!” من جهةِ رجوع عدم الاحتمال إلى مناشئ ثقافية وفكرية خاصَّة، ومِنْ أمثِلَةِ ذلك مَنْ نَشَأَ على معيارية المصالح الدنيوية وأنَّ لكلِّ عطاء ما يقابله في هذه الدنيا، فهذا وأمثاله، في الغالب، لا يحتملون من الأحاديث غير ما يقيم لهم معاشهم المحسوس. وكذا من تقوم حياته الأدبية الأعم من الاجتماعية وغيرها على الاندماج مع المخالفين، واعتباره كل ما يقولونه عن التشيع، فهذا وأمثاله، في الغالب، لا يقبلون الأحاديث التي تروي فضائل وكرامات أهل البيت (عليهم السلام)؛ بحجَّة أنَّ الآخر قد يُشنِّع علينا!

هذا وناهيك عن ما لا يمتلك الصحيح من أُسس وأصول النظر في المسائل العقائدية والفِقهية إذا حسِبَ نفسه مالكًا لزمامها، فيرفض هذا الحديث ويطعن في ذاك، بذريعة المخالفات العقلية، والحال أنَّ الوقوف على شيء من الأسس والأصول يطرد مثل هذه التصورات الخاطئة.

لذا، فإنَّ من أعظم الامتحانات التي يتعرَّض له المُؤمِنون امتحان التسليم لأمر أهل البيت (عليهم السلام) على مختلف المستويات، وهذا ما يُصرِّح به حديثُ جابرٍ الذي تشرَّفنا بذكره شاهِدًا قبل قليل.

ولا فلاح بغير الابتعاد عن التعسفات ومهاوي الاستعجال.

والختام بالتأكيد على أمرين:

الأوَّل: لا يصحُّ الرفضُ إلَّا من بعد الإحاطة بكل وجوه المسألة، وإلَّا فإمساك القلم أولى بالأدب.

الثاني: عدم التكذيب لا يعني التصديق وترتيب الأثر، ولكن ينبغي التنبه دائمًا إلى مبغوضية التكذيب، وإلى أنَّ الإنكارَ كفرٌ؛ كما هو النصُّ الوارد عن المعصوم (عليه السلام).

والحمد لله ربِّ العالمين

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

10 جمادى الثانية 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

……………………………………………………

[1] – الآية 30 من سورة البقرة

[2] – الآية 34 من سورة البقرة

[3] – الآيات من 20 إلى 22 من سورة الأعراف

[4] – علل الشرائع – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 402 – 403

[5] – الآية 70 من سورة الكهف

[6] – الآية 12 من سورة الأعراف

[7] – الآية 20 من سورة الأعراف

[8] – الآية 19 من سورة الأعراف

[9] – الآية 22 من سورة الأعراف

[10] – لسان العرب -ابن منظور- مادَّة (قطب)

[11] – الصحاح في اللغة -الجوهري- مادَّة (قوم)

[12] – لسان العرب -ابن منظور- مادَّة (قوم)

[13] – الآية 65 من سورة النساء

[14] – معترضين أو مستحسنين فعلًا غير فعله (صلَّى الله عليه وآله)

[15] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 540

[16] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 542

[17] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 543

[18] – الآية 179 من سورة البقرة

[19] – الآية 30 من سورة البقرة

[20] – الآية 12 من سورة الأعراف

[21] – لآية 20 من سورة الأعراف

[22] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 558

[23] – تناولنا هذا المطلب في بحوث سابقة. تُراجع رسالة الحبور من كتاب: تحصيل الرشاد وتحصين العباد، تأليف: السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

[24] – معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – ص 2

[25] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 43

[26] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 401

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.