مقالات عاشوراء
ليست مقدَّمة، بل هي جوهر الموضوع.. قال عليُّ بنُ الحُسينِ (عليهما السلام):
“إذا رأيتُمُ الرجُلَ قد حَسُنَ سَمْتُهُ وهديُهُ، وتَمَاوَتَ في مَنْطِقِهِ وتَخَاضَعَ في حَرَكَاتِهِ، فرويدًا؛ لا يَغُرَنَّكُم؛ فما أكثر من يُعْجِزُهُ تناولُ الدنيا وركوبُ المحارِمِ منها لضعفِ نِيَّتِهِ ومَهَانَتِهِ وجُبْنِ قَلبِهِ، فَنَصَبَ الدينَ فَخًّا لها، فهو لا يَزالُ يَخْتِلُ الناسَ بِظَاهِرِهِ، فإن تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ. وإذا وجَدتُمُوه يَعِف عن المال الحرام، فرويدًا، لا يَغُرَنَّكُم؛ فإنَّ شهواتِ الخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فما أكثر من يَنْبُو عن المال الحرام وإنْ كَثُرَ، ويَحْمِلُ نَفْسَهُ على شَوهَاء قبيحة فيأتي منها مُحَرَّمًا!
فإذا وجَدتُمُوه يَعِف عن ذلك، فرويدًا؛ لا يَغُرَنَّكُم حَتَّى تَنْظُرُوا ما عَقَدَهُ عَقْلُهُ؛ فما أكثر مَنْ تَرَكَ ذلك أجمع ثُمَّ لا يرجعُ إلى عَقْلٍ مَتين، فَيكُونُ ما يُفْسِدُهُ بِجهلِهِ أكثرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعقْلِهِ. وإذا وَجَدتُم عَقْلَهُ مَتِينًا، فَرويدًا؛ لا يَغُرَنَّكُم حتَّى تَنْظُرُوا: مَعَ هَوَاه يَكُونُ على عَقْلِهِ، أو يكُونُ مَعَ عَقْلِهِ على هَوَاه؟ وكيف مَحَبَّتُهُ للرياسات الباطلة؟ وزُهدُهُ فيها؟ فإنَّ في الناسِ من خَسِرَ الدنيا والآخرة بترك الدُنيا للدُنيا، ويرى أنَّ لذَّةَ الرياسة الباطلة أفضلَ من لذَّةِ الأموالِ والنِعَم المُبَاحَةِ المُحَلَّلة، فيترك ذلك أجمع طلبًا للرياسة. – إلى أن قال -:
ولكنَّ الرجلَ كل الرجلِ نِعْمَ الرجلِ هو الذي جعل هواه تبعًا لأمر الله، وقِوَاهُ مَبذُولَةً في رِضَاءِ الله. يرى الذُلَّ مع الحقِّ أقربَ إلى عِزِّ الأبَدِ مِنَ العِزِّ في الباطل. – إلى أن قال -:
فذلكم الرجلُ نِعْمَ الرَجُلِ، فبه فتمسَّكُوا، وبِسُنَّتِهِ فاقتدوا، وإلى ربِّكم بِهِ فَتَوسَّلُوا؛ فإنَّه لا تُرَدُّ له دَعوَةٌ، ولا تَخيبُ له طَلِبَةٌ”[1].
بالله عليكم، هل من موردٍ يضيقُ عن صِدقِ مضمون هذا الحديث العظيم؟
لا واللهِ، فقد نراه صريحًا سافرًا في أحقر ميادين الحياة، كما هو كذلك في أعلاها..
يا لها من نَفْسٍ تقودها خِفَّتُها لتلبية شهواتها متلونةً بألوان وألوان، وتقمصات وتقمصات، حتَّى يعيشَ إنسانُها الدورَ ويصدِّقَ تمثيلياته المُركَّبَة ذاتًا، والمُعَقِّدة لحياته، فلا يقدر على تصحيح مساره بعد أن وقع في شِراك ما كسبه بيدي نفسه الأمَّارة..!
تُقبِلُ علينا بعد أيامٍ ذِكرى الحُسينِ (عليه السلام).. الذِكرى التي أُمِرنا بإحيائها وبذل الغالي والنفيس من أجل المحافظة على قيمها ومبادئها ناصعة متسامية فوق هذه الدُنيا الدَنِيَّة ومصالحها الضيقة، ولا شك في أنَّ طريق الحسين (عليه السلام) لهو مِن أبرز وأكمل مصاديق (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[2]، وهو طريق لا يُصبِحُ إلَّا بالاستدلال به عليه، وعلى سِوَرِهِ بآياتِه، وبِحُرُوفِهَا عَليَها، وهو أمر لا يحتاج إلى أكثر من صدقٍ نَابِهٍ، ونَبَاهةٍ صَادِقَةٍ في الانفراد بالحسين (عليه السلام)..
لا أشكُّ في تنفُّسِ الأرضِ عبقَ صِدقِ السواد الأعظم من الشيعة وهم يُنْكِرُون ذواتهم في سبيل إحياء شعائر الله العظمى في ذِكرى أبي عبد الله إمامنا الحسين (عليه السلام)، إلَّا أنَّ ثمَّة ما يُنَغِّصُ هذا الصدق ويجعله في حالة من الاضطراب انزعاجًا ورفضًا لما تفرضه قِلَّةٌ على أجواء عاشوراء..
أقصدُ تِلكَ القِلَّة المُتفرِّقة بين من يريدُ تحالفًا مع المسيحيين، فيطرح الحسين (عليه السلام) كنموذج للتقارب الديني والحضاري! وبين من يُؤمِنُ بالثورية والمواجهات المباشرة، فلا يُقدِّمُ قراءةً للحسين (عليه السلام) إلَّا تحت هذا العنوان وحاكميته!!
وذاك الذي يذهب إلى إطلاق العنان للسلمية والسلام والمحبَّة والوئام، فيعمى عن غير ذلك في تأويلاته لسيرة كربلاء!
ومنها مَنْ يُقدِّمُ رمزه أو قيادته أو تيَّاره على أنَّه الامتداد الحق لكربلاء الحسين (عليه السلام)، وأمَّا غيره فلم يعرفها بعد!!
نعم، يقوم الإمام الحسين (عليه السلام) بعناوين متعدِّدة، مثل: السلمية، والمواجهة العسكرية المباشرة، والمحاورة الوازنة، وغير ذلك مِمَّا تستدعيه المرحلة ويستوجبه الظرف، فهو (عليه السلام) وجودٌ متوازِنٌ مُحكَمٌ في قراراته، فيعرف متى يقول: “أيًّها الناس، إنِّي لم آتِكُم حتَّى أتَتْنِي كُتًبُكُم وقَدمَتْ عليَّ رُسُلُكُم أنْ أقْدِمْ علينا؛ فإنَّه ليس لنا إمام، لعلَّ اللهَ أنْ يجمعنا بِكَ على الهُدَى والحَقِّ. فإنْ كُنْتُم على ذلك، فقد جِئتُكُم، فأعطوني ما أطْمَئِنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لِمَقْدَمي كارهين، انصرفتُ عَنْكُم إلى المكان الذي جِئتُ مِنهُ إليكم”[3].
ومتى يصرِّح في وجه الجبابرة: “ومثلي لا يبايع مثله”.
عندما يتقدَّمُ الشيعي لِتَقَلُّدِ وِسَامِ إحياء ذِكرَى عاشوراء فإنَّ ما يجب عليه حينها أن يقرأ الحسين كما هو الحسين (عليه السلام) متوازنًا في غاية الاتِّزان، حكيمًا في غاية الحكمة، موضوعيًا في غاية الموضوعية، لا يُجَيِّرُ شيئًا من سيرته العالية لمصالح شخصية أو حزبية أو تيارية تُخرِجُ عمله عن كونه عملًا تكليفيًا ذا شرف عظيم، إلى أن يكون ممَّا يُتصَارع به لأجل مكاسب دنيوية يُلبسها الشيطان الرجيم قميص التدين والتقوى بعنوان (خدمة الحسين عليه السلام)!
لا مجال في واجب إحياء كربلاء الحسين (عليه السلام) إلى أدنى مساحة لسلطة الأمزجة والأهواء على الإطلاق، فضلًا عن استغلالها للتفريغ النفسي وتصفية الحسابات..
هذا يصرخ (أنا حرُّ) وذاك (كيفي) وما إلى ذلك من شائنات لا تليق على الإطلاق بمن يحمل اسم الإمام الحسين (عليه السلام)، فما ينتظر منه أن يتحرَّك به ليحي به الضمائر وينعش بطراوته القلوب، لا لتتورَّم بتأزيمات حامله الضمائر وتتقيح القلوب!
ليس الحسين (عليه السلام) أنا، ولا هو أنت.. الحسين هو الحسين، وأمَّا نحن ُ فجِدُّنا واجتهِادُنا في التمسك بعروته الوثقى منكرين لذواتنا وانتماءاتنا، لنُصَاغَ بحكمة الاتِّزان، كما يريد الحسين (عليه السلام).. لا أنْ نصيغه كما نريد نحن.
السيد محمَّد علي العلوي
24 من ذي الحجَّة 1439 للهجرة
قرية عراد – البحرين
………………………………………………………………
[1] – وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 8 – ص 317 – 318
[2] – الآية 38 من سورة البقرة
[3] – الإرشاد – الشيخ المفيد – ج 2 – ص 79