مقالات عاشوراء
قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وحسبما أذكر ويروي لي من هم أكبر مني سِنّاً، كان لشهر محرم الحرام وهلالهُ قدسيةٌ خاصة تختلف بشكل كبير عمّا نراه الآن، فما إن يقترب ميقاته حتى تدبغ الملابس القديمةُ المختلفة الألوان باللون الأسود، فأمرُ شراء الملابس الجديدة حينها لهذه المناسبة الأليمة يُعدّ أمراً غير مستحسنٍ إطلاقاً، إلا أن تكون هنالك حاجة ماسة لذلك. فكيفَ يُلبسُ الجديد في شهرٍ ذُبح فيه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله!
أضف إلى ذلك، أنه وبمجردِ بدء موسم عاشوراء، موسم الحزن والألم، كان يُحرِّمُ علينا آباؤنا وأمهاتنا مضغ العلكة وأكل الحلوياتِ بمختلف أنواعها حتى ينقضي الموسم كاملاً، بل وحسب ما أذكرُ ويذكر البعض أنهُ كان الأمر يمتدُ حتى نهايةِ شهر صفر المظفر، فلا ملابس جديدةٍ، ولا حلوياتٍ، ولا حتى تلفاز! فقد كان يقلبُ للحائط أو يغطى بقطعةِ قماش حتى يهِلّ هلال شهر ربيع الأول.
كان موسماً للحزن، موسماً لتذكر مصيبة أبي عبد الله عليه السلام، يرتدى فيه السواد من أول ليلةٍ في شهرِ محرم حتى آخر يومٍ في شهر صفر، يُجتنبُ ويستهجنُ المزاحُ والضحك واللعب، وتجتنب فيه النساءُ الادهان والتعطر والتزّين، بخلافِ ما نحنُ عليه الآن، فقد أصبح موسماً يتسابقُ فيه البعضُ – وأقول البعض – للظهور بأفضل هندامٍ ولباس وبمختلف قصّات الشعر والزينة، يتبادلون النُكاتِ والمزاح حتى وهم في حضرةِ الحزن في مأتم أبي عبد الله عليه السلام.
كان موسمُ عاشوراء آنذاك أقربُ لما ينقل من روايات أهل البيت عليهم السلام مما نحن عليه الآن، فالحزن على الحسين عليه السلام لا يرتبطُ فقط بمجلس نعي أو موكب عزاء تذرف فيه الدموع ويلطم فيه الصدر أو يمشى فيه على الجمر وتطبرُ فيه الهامات، فهو أوسع بكثير من ذلك كله، فعن علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال: (كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول هو اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام).
هذه الرواية وما يشابهها في ذكر استقبال أهل البيت عليهم السلام لشهر محرم الحرام توجهنا لأن يكون حزننا وبكاؤنا وجزعنا على الحسين عليه السلام ليس مرتبطاً بمكانِ العزاء فقط، بل ارتباطه بحلول شهر المصيبة والألم، فكم منّا من (إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً)؟ بل وكم منّا لا يُرى ضاحكاً وممازحاً يوم العاشر من محرم يوم المصيبة والحزن والبكاء؟
وفي رواية أبي عمارة المنشد التي يقول فيها: ما ذكر الحسين بن علي عند أبي عبد الله عليه السلام في يوم قط فَرُئيَ أبو عبد الله عليه السلام متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان أبو عبد الله عليه السلام يقول: (الحسين عبرة كل مؤمن)، تنقل جانباً أعمق بكثير من مجرد الحزن وإظهاره وارتباطه بوقتٍ معين، بل الحزن يرتبط بذكر اسم الحسين عليه السلام، في كل زمان وكل مكان، بل وإنه مرتبط بشربنا للماء وأكلنا للطعام حتى لا يكادُ أحد أن ينسى ذكرهُ في كل يوم وكل ليلة، ففي روايةٍ أخرى ينقلها داوود الرقي: كنت عن أبي عبد الله عليه السلام إذ استسقى الماء، فلما شربه رأيته استعبر واغرورقت عيناه بدموعه. ثم قال: يا داوود، لعن الله قاتل الحسين عليه السلام، فما أنغص ذكر الحسين عليه السلام للعيش! إنّي ما شربت ماءً بارداً إلا وذكرت الحسين عليه السلام.
نسأل الله العلي الأعلى أن يجعلنا من الذاكرين للحسين عليه السلام الباكين عليه والسائرين على منهاجه والفائزين يوم النشور بشفاعته وشفاعة جدّه وأبيه وأمه وأخيه إنه على كل شيء قدير.
صادق جعفر
٢٤ ذي القعدة ١٤٣٩ هجرية
بني جمرة – البحرين