((تغيير الاتجاه والانقسام في البواعث))
إنَّ الإنسان المؤمن يجري من شهر شوال إلى شهر شعبان على وفق انبعاثاته النفسية التي يشعرُ بها يوميًّا من شهوة الطعام والشراب والنساء، وذلك اتِّباعًا للخطاب الإلهي بالرخصة، وفي خصوص شهر رمضان يتغير اتِّجاه الخطاب من الرخصة إلى المنع، فتتغير حركة المؤمن بأفعاله وانبعاثاته وحاجاته، فيكفُّ عن الفعل و يكبِتُ الانبعاث ولا تُشبعُ الحاجة، فيتحقق فصلٌ من حيث التجربة والشعور بين شهر رمضان وغيره أو ما عبَّرنا عنه بالانقسام الزمني، وممَّا يفضي إليه هذا التغيير في الاتِّجاه أيضًا هو الانقسام في البواعث، وهو ما نتناوله في هذا المقال.
إنَّ البواعث التي يتمُّ كبتُها في شهر رمضان في فترة الصيام هي بواعثٌ ضروريةٌ في حياة الإنسان ولها قيمتها وأهميتها وشأنها في وجوده وبقائه، بل استقامة نفسه واستقرار ذهنيته وقدرته على التفكير وأداء وظيفته، وهي البواعث الغريزية، وطبيعة هذه البواعث أنّها بواعث مُلِحّةٌ في النفس، تتحقق فيها بمجرد الحاجة، كما أنها تشغلُ جانبًا كبيرًا من حياة الإنسان، فمقدماتها تحتاجُ إلى سعي دائم، أعني بذلك المقدمات البعيدة كالسعي لتحصيل المال.
ثُمَّ إنَّ كبت هذه البواعث يؤدي إلى الإرهاق والتعب، وقد يؤثر على ذهنية الإنسان وممارسته وحياته اليومية عمومًا.
وإذا تأمّلنا في هذه البواعث الغريزية وجدناها تصبُّ في حبِّ الإنسان للبقاء واستمرار حياته، وهو حبٌّ لهُ تأصلٌ في بنيته البدنية الجسدية، ويمثلُ السلامة النفسية والحالة السوية للنفس الإنسانية.
وفي نفسِ الإنسان بواعث من نحوٍ آخر متعلقها هو غير متعلق البواعث الغريزية، فإذا كانت البواعث الغريزية تصبُّ في كفة حبِّ البقاء الدنيوي، فإنّها تصبُّ في كفة حبِّ الكمال، ويمكن أن نقول حب البقاء في عالمٍ آخر غير عالم الدنيا يمثلُ سمو الإنسان.
وهذا النوع من البواعث التي قد نربطها بالعقل والقلب والروح يمكنُ لنا أن نسميها بواعث إنسانية، نظرًا إلى تمحضها في هذه الكفة وارتباطها بعالم المعنى.
إنَّ هذه البواعث مختلفة عن تلك البواعث من حيث إلحاحها وشدتها التي يجدها الإنسان في نفسه، بل كثيرًا ما تغيبُ عن ساحة النفس لتلهي الإنسان عنها ببواعثه الغريزية، فيجعلها في طرف الإهمال واللامبالاة، فهي بواعث تحتاج إلى مزيد عنايةٍ وتوجه من الإنسان، وبحسب طبيعتها لا تتحقق هذه العناية بالجري النفسي التلقائي كما في البواعث الغريزية، بل تحتاج إلى توجهٍ من الإنسان بنفسه.
ونتساءل الآن: ما هو موقع الصوم من هذه البواعث؟
إنَّ الصوم يحققُ انقسامًا نفسيًا بين هذين النوعين من البواعث بإرادة الإنسان لامتثال أمر الله تعالى والتقرب له، ففي إرادته لذلك إهمالٌ مؤقتٌ لبواعثه الغريزية رغم إلحاحها في النفس وارتباطها بقوته وطاقته ولذته من أجل طاعةِ الله سبحانه، والتي منشؤها أيضًا حاجةٌ في نفس الإنسان وميلٌ وباعثٌ فيه وهي فطرته وعقله وقلبه وروحه التي تدعوه للكمال المطلق والترقي في مدارجه.
فيتحققُ فصلٌ شعوريٌّ بين حبين متأصلين في الإنسان: حبه للبقاء الدنيوي وحبه للكمال المعنوي، وينتصر الصائمُ مقويًّا الكفة الثانية على الأولى، ولسانُ هذا الوضع النفسي: أنا لا أجري على وفق رغباتي الآنية دون نظرةٍ كليَّةً حول نفسي وحول وجودي، فإنني موجودٌ في هذه الدنيا أراعي شهواتي ورغباتي، ولكن لأجل كمال نفسي وسمو روحي وصفاء قلبي وطهارة نيتي، وبتعبير يشملها جميعًا لأجل عبادة ربي.
ومن هنا يتعلّم الصائم الموازنة بين حبيه وباعثيه، فإرادتهُ لا تتوجه بحسب الباعث الملح بل إرادته بحسب تعقله وإدارته التي توصلُهُ إلى كمال نفسه، ويتعلمُ من خلال تجربته هذه أن يُجاهد لكي يكون فاضلاً، فالصومُ سعيٌ حقيقيٌ نحو التقوى.
وهذه الموازنةُ بين الكفتين تحتاجُ إلى فريضة الصوم من جهة أنّ الجانب الغريزي له سلطة على الإنسان طوال حياته حيث أنَّه مرتبطٌ ببقائه حيًّا، فلذا يعطي مؤشراته دائمًا للإنسان لإشباع حاجته، فيضطر للانشغال به عن جوانبه الأخرى التي تمثل سموه الروحي والقيمي.
إذن: إنَّ تغيير اتِّجاه الحركة التي يتحركها الإنسان طوال السنة من الرخصة إلى الامتناع يفضي إلى أمرين لا على نحو الحصر:
- الانقسام الزمني: وهو يكون بين شهر الصيام وغيره من الأشهر، وهذا الانقسام انقسامٌ شعوريٌّ بتجربة الإنسان وليس انقسامًا ذهنيًا وحسب.
- الانقسام في البواعث: وهو يكون بين الباعث الغريزي في الإنسان والباعث الإنساني، وانقسامٌ بتجربة الإنسان وإرادته لمراعاة جانبه الروحي والإنساني وتقويته.
هل هنالك انقسامٌ آخر يحققه الصوم؟
نعم إنَّه يحققُ انقسامًا شعوريًّا آخر بتجربة الإنسان، وهو ما أسميه بـ ((انقسامُ اليوم)).
هذا ما سنتناوله في المقال القادم.
مهدي صالح الجمري