يتحدَّثُ التاريخُ عن الأخيار والأشرار.. عن الطيبين والخبثاء..
يتحدَّثُ عن مجتمعات بشرية تقوم على الأضداد في الطباع والسلوك، فهناك من يُحسِن التقدير، وهناك من يسيئه، وهناك من يجيد قراءة الواقع، وهناك من يخطئ فيها، وهناك من لا يُحسنها.. هكذا هي تتحرَّكُ في اتِّجاهات داخلية متعاكسة، ولكنَّها تُشكِّلُ اتِّجاهًا عامًّا واحدًا، وهو ما يُسمَّى: طبيعة المجتمع البشري..
كلَّما أصابني ألمٌ بسبب سوء تقديراتي أو ضعفي في إجادة قراءة الواقع، فإنَّني أبتعد متراجعًا لأبحث عن حضن الطبيعة أرتمي على دفء ظِلالِه.. وأتأمَّل..
كان الغيثُ ظهر اليوم غزيرًا، وأحسستُ بشوق لتأمُّل صفحةِ البحر وهي تتلقى مياه السماء بأنفاسٍ متلاحقة، فهي تستوعب حبَّات الماء رقيقة حانية، وفي لحظات تتغير فتتحوَّل كالرصاصة تثقبها بقسوة، ولكنَّ طبيعة البحر أنَّه سريع العناق، فيحتضن نفسه مجدَّدًا فيزفر ليعيد زفرته شهقة يأخذ بها ما فُتِحت له أبواب السماء..
ماء بماء..
تلفحُ الشمسُ مياه البحار، فيتبخر منها ما يرتفع إلى السماء..
تسبح المياه فوق بحارها غيومًا تحاكي الرياح.. وتحاكيها..
ثُمَّ يأتي النداء من البحار..
أعيدوا لي مياهي، فهي منِّي، وأنا الأمُ والولد..
أعيدوها..
يُتَّخذُ القرار، فتُزمجِرُ السماء وترعد وتبرق لتفتح الأبواب وتناهل المياه..
تحتضنها البحار، ومعها اليابسة وكلُّ ما على وجه الأرض، وكأنَّ الأمَّ تحتفل بعودة أولادها فتُحسِن لغيرها إرواءً وإنعاشًا..
بالرغم من قسوة الشمس وهي تُبعِد تنتزع من الذات بعض ذاتها.. بالرغم من تعاون الرياح معها في حمل ما للتو قد سُلِب.. بالرغم من الألم وأحشاء تمزَّقت..
بالرغم من كلِّ ذلك..
ها هو البحر يحتفل من جديد، ويُحسِنُ للجميع، دون أيَّة حسابات مغرورة..
إنَّها فلسفة الماء.. أثق بها كثقتي المطلقة في الحب.. ولكن ينبغي أن أحذر.. وتحذر (…)
السيد محمد علي العلوي
26 صفر 1438 هجريَّة
27 سبتمبر 2016 ميلاديَّة