أما الإيمان بهذه النظرية أو تلك، فهذا حق أصيل لك، وليس لأحد مصادرته.. ليس لأحد على الإطلاق، ومن يحاول مصادرة الحقوق الفكرية للآخرين فهو إلى زوال حتمي وبلا تردد ولا تراجع بل ولا رحمة، وهذه سُنَّةٌ تاريخية ونمطٌ تكويني فلسفي لا يمكن الفرار منه أبدًا.
من أين أبدأ؟
طيب.. فليكن من صدَّام والمالكي..
زال صدَّام ولن يعود، وعن قريب سوف يزول المالكي ولن يعود..
الحديث في الواقع ليس عن صدَّام كشخص، ولا عن المالكي كشخص، ولكنه حول مفهومين جسد أحدهما صدَّام ويجسد المالكي الثاني، فالأول كان مفهوم الدولة في رجل، وهو من المفاهيم التي كانت ناجحة جدًا حتى مفصل الحرب العالمية الثانية، وهو المفصل الذي أحدثه هتلر للإبقاء على السيرة الأولى فسُحِقَ شَرَّ سحق وإن بدا في بعض مراحل الذبح منتصرًا، والحال أن الصليب المعقوف أصبح في ألمانيا اليوم تهمةً تستوجب السجن، بعد أن كان رمزًا لعرقية وقومية قاتل هتلر من أجلها!!
وأما الثاني فمفهوم القضاء على الآخر من أجل المصلحة العامة، وهو في حقيقته وواقعه تنفيذ لما يريده الكبار، فواقع القاعدة و(ربعها) كتب عليه أنه من الزمن الماضي ولا مفر من (فَرِّ) صفحته، وهكذا هو الأمر في العراق بيد المالكي وفي سوريا بيد بَشَّار، وكلاهما مسكين، فالأول إما أن يترك أغبياء التطرف يدمرون العراق أو أن يدمرهم، والثاني مثله تمامًا، والحال أن الحرب فُرِضتْ في الدولتين لحساب مستقبل قد رُسِم ولن يكون فيه للسلاح الدموي ما كان له أمس واليوم، فالغد أمره مختلف، ومن يعانده فالمالكي مفهومًا موجود وكذلك بَشَّار!
ومثال آخر..
الأصل في الشيعة الإمامية أنهم يعولون كثيرًا على الحوزة العلمية وما تقدمه للمجتمع من علم وعلماء، ويمكنني القول أن الحوزة العلمية كان من المفترض أن تُقرأ بدقة أكثر قبل ومع وبعد المفصل المرحلي الذي برزت فيه ثلاث مدارس فكرية:
الأولى: السيد الشهيد الأول محمد باقر الصدر (قدس سره).
الثانية: الإمام الخميني (قُدِّسَ سِرُّه.
الثالثة: الإمام الشيرازي (قُدِّس سِرُه)
شَكَّلَ كُلُّ خَطٍّ من الخطوط الثلاثة تيارًا برز بمعالمه الخاصة، أما الصدر فقد كان وبتحريك من المرجع الحكيم (قدس سره) هو المُنَظِّرُ والمهندس الأول لتيار حزب الدعوة، وأما الإمام الخميني فكان محور بروزه هو الإطاحة بالحكم الشاهنشاهي من جهة وتقدمه من جهة أخرى على التيار الفكري الذي قُدِّم فيه سياسيًا أبو الحسن بني صدر، وأما الإمام الشيرازي فقد عانى ولا زال فِكْرُهُ يعاني تجنبه الدخول في معترك اللعبة السياسية، وتفضيله الاهتمام بالبناء الثقافي والفكري الجماهيري، وهذا بعد أن كان في فترات عريضة شريانًا وقلبًا نابضًا في خصوص منطقة الخليج للحراك الإيراني قبل الانتصار.
لن يعاني التاريخ كثيرًا مع حزب الدعوة، وسيبقى هذا الحزب لمراحل تاريخية قادمة، وكل ما في الأمر أن الوجوه سوف تتغير، فالمالكي (نستودعك الله)، وغيره من نفس الحزب ولكن بلون يناسب المرحلة (أهلًا وسهلًا) ويبدو أن الرسمة (حزبيًا) تُعَدُّ للعراق من خارج أرضها!
وأما النموذج الإيراني فهو –في نظري- الأكثر ذكاءًا والأكثر نضجًا والأكثر استقلاليةً، ويظهر ذلك بعد تمكنه وبجدارة من التحول بالفكر الخميني من تلك المرحلة إلى مراحل حتى قرن قادم وبسلاسةٍ عبقريةٍ، وستبقى إيران (جمهورية إسلامية) قد تخطئ، ولكنها قادرة على المضي بسلام وسلامة.
وأما التيار الشيرازي فأمره رهين رجوعه لكافة كتب ومصنفات مؤسسه السيد محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي (قدس سره)، فهو من الشخصيات النادرة؛ إذ تمكن وبتفوق من قراءة التاريخ والحاضر والمستقبل بشكل قل نظيره، ولو أن هذا التيار يركز اهتمامه في دراسة هذا الإرث الكبير لتمكن من العودة إلى الصدراة ومنافسة الآخرين في صناعة واقع جديد، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التيار قد عُلِّم ومن كبار العالم بعلامة (إكس)، ولذلك لم تتوقف الجهود القاصدة تقويضه والقضاء عليه، وما أراه أن هذا التيار – بالفعل – رهين العودة العلمية الحقيقية لرشد الأطروحات الأولى من مؤسسه ومنظره الأول، وإلا فالقادم منفصل تمامًا عن السابق وإن تسمى باسمه.
لا زالت الحوزة العلمية في النجف الأشرف تقدم الكثير وبجهود فائقة الصدق والإخلاص، ولكن الذي أراه هو انها سوف تُحْبَسُ في واقع (التميمة) ما لم تُحدِث في عمقها الثقافي تحولًا ينقلها بأصالتها التاريخية إلى واقع جديد يُمَكِّنُها من فرض نفسها جهةً صانعة للقرار..
نعم، فمما لا يُنكَر أن حوزة النجف الأشرف تُقَدِّمُ كفاءات علمية (حوزوية) متينة، ولكنها وبالرغم من متانتها لن تتمكن من البقاء ما لم تؤخذ في بنائها أسس علمية جديدة مثل الاجتماع وعلم النفس والسياسة وما نحو ذلك من العلوم الإنسانية التي تقوم عليها خرائط التخطيط العالمي، ولأنها ليست على ذلك فإن البون آخذ في الاتساع بين الناس والحوزة، وهذا خطير جدًّا..
هل يلاحظ القارئ الكريم:
كيف أن العقل هو المحرك الأصل لمتاريس لعبة التاريخ؟
هلا يلاحظ القارئ الكريم:
أنه لا بقاء على الإطلاق لمن لا يُفَعِّل عقله ويعرف جيدًا متى يقول ومتى يسكت ومتى يواجه ومتى ينسحب ومتى يهادن ومتى يحارب؟
هلا يلاحظ القارئ الكريم:
أن النسبة الأكبر من بني البشر تقوم بدور الفحم الذي يحترق ليمشي القطار، وأن النسبة الأقل مطلقًا بين قائد ومالك للقطار؟
هل يلاحظ القارئ الكريم حجم (اللعبة)؟
من يعيش بعقلية الأمس فإنه إلى زوال وإن ادعى القدرة على قراءة اليوم واستشراف الغد، فإن التاريخ لن يقول له غير(باي باي).
أما الغد فهو لمن تحاربهم اليوم عقولُ الأمس.
السيد محمد علي العلوي
31 رجب 1435 هجرية
31 مايو 2014 ميلادية