لست أشك على الإطلاق في أن النقد مفتاح رئيس في أي عملية تصحيحية أو حراك تطويري، بل ولا شبهة عندي أبدًا في أنه سلم تكويني نحو أي حضارة ينشدها الإنسان، وبدونه أو مع ضعفه فإن الاستبداد هو اللاعب الآخر دائمًا وإلى جانبه عبوديةٍ منتجةٍ عن ثقافة تكوينية أيضًا.
عندما نتحدث عن النقد فالحديث حينها ليس عن حالة من الفوضى وقلة الأدب، كما أنه ليس عن ميدان للهجوم والنيل من الآخرين بحجة النقد وحرية الرأي، ولكنه في الواقع حديث عن منطلقات علمية لحركات تصحيح واعية تلتزم مجموعة من الموازين والمعايير القيمية الثابتة، وإلا فهو ليس غير تقيحات لأمراض نفسية مدمرة.
يبدو لي أن هناك من لا يريد لنا النهوض على قواعد النقد العلمي الصحيح، وفي نفس الوقت يبحث لنا عن الفوضى والإرباك والتصادم، فانتهى – في ما أتصور – إلى إشاعة عنوان (النقد) في مجتمعاتنا بالتزامن مع تحطيم الحالة الرمزية والشأنية بحجة أن (النقد) لا يعرف (التقديس)، والحق أن التقديس شيء والرمزية شيء آخر، ونحن نقول أيضًا بأنه لا تقديس لغير المعصومين (عليهم السلام)، وبالتالي فإن بين التقديس والرمزية عموم وخصوص مطلق؛ إذ أن كل مقدس رمز ولا عكس، وما ينبغي أن يقال هنا أن (النقد) من المفترض أن يكون ماضيًا على طريق التصحيح والتقويم إلا أن من موازينه مراعاة الحالة (الرمزية) في المجتمع؛ فمسألة أن أوجه نقدًا لجهة ما فهذا لا ينتج خيرًا إن لم أراعي رموز تلك الجهة ثقافية كانت أو فكرية أو شخصية عَلَمِيَة، وإلا فالمنحى حينها لن يبتعد عن مطبات الشخصنات وتصفية الحسابات.
هذا وقد أصَّلَ الله سبحانه وتعالى لأسلوب التعامل مع الآخر في آيتين رئيسيتين، أما الأولى فـ (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
وأما الثانية، فقوله عز وجل (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
النقد مدرسة علمية قمة في الرقي والتحضر قد أسيء لها بتصرفات غير مسؤولة من بعضٍ يُصِرُّ على عزل نفسه والتميز بما حذر رسول الله (صلى الله عليه وآله) منه في قوله “من خاف الناس لسانه فهو في النار”.
فلندقق جيدًا..
ليس من إنسان إلا وله رمز أو مجموعة من الرموز، فالرمزية ليست محصورة في عَلَمٍ مشخص، ولكنها قد تكون في ثابتة أو قناعة أو حتى فكرة، ولذلك نجد حالة من التوثب عند من يَتَعَرض لهجمة تستهدف ما يتبناه من أفكار خصوصًا في القضايا المفصلية، والغريب أنه إذا رد بحدية مقابلة اتهمه المهاجم بالضيق والدكتاتورية والاستبداد، هذا وللتو قد فرغ هذا الأخير من سخافات قد أسماها نقدًا والنقد منها براء وإن زينها وألبسها ثياب خضر واستبرق.
في تصوري أن الحالة الرمزية الطبيعية في المجتمع تتعرض لضربات ممنهجة تحركها أصابع وتنفذها عقول وعت على معادلات مقلوبة تؤسس إلى تصوير البذاءة وقلة الأدب شجاعة وثبات على الموقف، بل وفي حالات جاهد وإقدام!!
ضاع رونق النقد واشتعلت نيران الفتنة وانشغلنا ببعضنا البعض وذهلنا عن ما يحاك هناك من وراء البحار، وما أظنه أن اليقضة بعيدة وأن الخمرة قد وصلت إلى الآذان.. والسكران عادة ما ينفي عن نفسه السُكر!
(فاء) التفريع، أو السببية أو النتيجة، سمها ما شئت، فهي في نهاية المطاف تفيد الفشل وذهاب الريح نتيجة حتمية للتنازع.. (فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.. فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.. فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..).
فلنرجع إلى النقد العلمي المؤدب، ولنتجنب هذا التناحر السافر رحمة بقلب إمام زماننا (عليه السلام).. ورحمة بأنفسنا.. بأولادنا.. بأحفادنا.. رحمة بالإنسان..
السيد محمد علي العلوي
3 جمادى الآخرة 1435 هجرية
3 إبريل 2014 ميلادية