ارتكز الفكر الشيعي في القرنين الأولين من الهجرة على العلاقة المباشرة بين المجتمع والمعصوم (عليه السلام)، وقد تميزت هذه العلاقة بميزة افتقدها كل من خالف نهج الولاية التي أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي ميزة الطمئنينة والسكون لقيادة عامة تقدم ضمان اليقين لأتباعها، فكلمة الإمام (عليه السلام) كانت مهوى قلوب العقلاء لما تتصف به من دقة متناهية، وقد أورثت هذه الميزة حالة من الثقة يتمتع بها الشيعة أكثر من غيرهم، ولكن هذه الصبغة النورية كانت مطاردة بعنف من قوى الظلم والجور التي لا تزال خائفة مرتعدة من سلطان السماء وكلمته العليا، ولذلك فإنها في حركة دائمة على مستوى (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) حتى أن استدعت كانت حكمة المولى سبحانه وتعالى تغييب الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) بغرض إعادة العالم في وقت من الأوقات إلى مستوى (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
لقد أحدثت غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) منعطفاً دقيقاً جداً في الفكر الشيعي والثقافة الولائية، فمن جهة كان الارتكاز الفكري على وجود القيادة المعصومة، ومن جهة أخرى حاجته القائمة إلى إيجاد توافق بشكل من الأشكال بين كون المعصوم موجوداً وكونه غائباً لا يرى، وهذا يحتاج إلى عمق في الفكر وحكمة في لون التعاطي الجديد مع أحداث الساعة، وهذا ما عمل الإمام العسكري (عليه السلام) على تمكينه في الثقافة الولائية عن طريق إيكاله الكثير من الأعمال الرئيسية إلى مجموعة منتقاة من العلماء والفقهاء والثقاة، وعلى هذه الشرعة الجديدة استمر الحال مع النواب الأربعة للإمام المهدي (عليه السلام) ليأتي من بعدهم المنعطف الأخطر بقيام الغيبة الكبرى له (أرواحنا فداه) لتتحول المسؤولية بتمامها للشيعة أنفسهم.
لقد سارت هذه التحولات الطولية في المرتكزات الفكرية عند الشيعة الإمامية باتساق تام عندما كانت انفتاحاتهم على الثقافات الأخرى بمطلقها تتحرك تحت ضوء مباشر من الثقلين، كتاب الله العزيز والعترة الطاهرة، فكان الشيعي يجالس الفيلسوف ويتعاطى ثقافياً مع الملحد ولا يطرد المجسم؛ فهو كان متمكناً تمكناً جيداً من الثقلين المقدسين بحيث أنه ينظر إلى كل وارد بضوء وهدي منهما.
في تلك الحقبة من تاريخ التشيع لم يكن أحد ليجرأ على ادعاء العلم والفقاهة إلا إذا كان عالماً وفقيهاً فعلاً، وإذا تقدم خطوة بهذا الإدعاء فإنه يحاسب محاسبة علمية من عوام الشيعة فضلاً عن علمائهم، فحالة الوعي كانت صمام أمان يضمن استمرارية النقاء الفكري عموماً، وهذا ما جعل عطاء العلماء الأولين مستمراً نابضاً بالحياة إلى يومنا هذا، بل وهو المعتمد علمياً في التأصيلات الفقهية والأصولية عند أكابر الفقهاء على مر العصور.
لقد كانت هذه الأجواء سبباً رئيسياً لالتفاف الناس حول العلماء بشكل تلقائي دون الحاجة إلى دفع أو ما شابه، وهذا ما نفتقره اليوم بعد تشكل منعطف جديد في المناهج الفكرية اعتمد المباعدة بين الناس والثقلين من جهة ودفعهم للانفتاح على الثقافات الدخيلة من جهة أخرى دونما معايير على مستوى الثوابت فضلاً عن القناعات فترتب على هذا الانفلات الثقافي انبساط مساحة خطيرة تتعالى فيها دعاوى العلم والثقافة مع رقابة تكاد أن تكون معدومة، فكان أن طرأ على الساحة الشيعية متلبسون انتهجوا طريق التخويف والترهيب والإيهام في فرض أنفسهم علماء قادة على رؤوس العباد إلى درجة أن مواجهتهم بأقل نقد أو معارضة فإنها تسجل في صحائف الناس تعدياً على مقام المعصومين (عليهم السلام) بل ومقام الألوهية ربما..!!
إن هذه الحالة الظاهرة اتعبت شرائح كبيرة في المجتمع مما أدى إلى موجة عزوف واضحة عن التدين والالتزام الديني، وذلك بعد أن أسفر ضعف هذه القيادات فبدا للناس عدم قدرتها على انقاذهم والتصدي للوقائع التي يواجهونها صغيرة كانت أو كبيرة، كما وأتعبتهم كثرة التبريرات الممتزجة بالتعالي العاجي والتسويق إلى أن الناس لا تفهم ولا ترى ما ترى هذه القيادات، والحال أنها لم تتمكن من تقديم شيء طوال عقود من الزمن غير الإيهام بأنها قدمت وحافظت وحققت التوازن وما إلى ذلك من ادعاءات ضعيفة أدلتها واهية براهينها.
ليس كلامي في هذه النقطة تحديداً، ولكنني قدمت إلى مسألة أخرى وهي توجه المتضررين باللوم إلى (العلماء) الذين لم يقدموا ما يطمح إليه الناس..
أقول بأن الذنب لا يتحمله من تلومون، وإن تحملوا فنسبة قليلة منه، أما النسبة الأكبر فأنتم تتحملونها بعد أن تركتم خيار العلم والمعرفة والتمسك الحقيقي بالثقلين وكأنها مهمة تجوز فيها الوكالة والنيابة فأوكلتموها لشريحة معينة (منكم) وانبتوها حتى تعاظم الأمر في النفوس وظهرت دعاوى العلمية والأعلمية والفقه والفقاهة، واليوم أنتم من يدفع الثمن ويتجرع مرارة هذا الابتعاد عن سبيل العلم المنقذ من مثل هذه المزالق المهلكة.
على المجتمع اليوم العودة الجادة والقوية إلى ميادين العلم والمعرفة حتى يكون منهم الانتاج الصريح لعلماء تسعى لهم القيادة سعياً، لا يطلبونها بمجاميع تسويق بشرية تأخذ على عاتقها ما تأخذ فتجعل ممن تُسَوِّقُ إليه (شبح) عالم تَسُوقُ الناس إليه سوقاً.. كما هو حاصل اليوم، ولا شك في أن هذا التحرك من شأنه أن يخلق ظروفاً تقطع الطريق أمام المستأكلين المأخوذين بموجة التقديس الشعبي التي سرعان ما يموت بريقها مع دورة جديدة من دورات الزمن المتعاقبة.
إحداث التغيير الإيجابي في المعادلات القائمة بيد كل طليعي من أبناء هذا المذهب العظيم، مذهب أهل البيت (عليهم السلام) المحفوظ بعين الله تعالى وعناية مولانا صاحب الأمر (أرواحنا فداه)، ولا عليك سوى إطلاق طليعيتك لترى توفيقات المولى عز وجل تتوالى عليك ومن معك.. فكن مع الله وتقدم حتى يكون الله تعالى معك..
السيد محمد علي العلوي
15 من ذي الحجة 1431هـ
21 نوفمبر 2010