التقييم.. كلمة نسمعها عندما تريد مؤسسة من المؤسسات الوقوف على آداءها في فترة سابقة، ومعناها الانتهاء إلى قيمة واقعية بناءً على حجم الخطوات والانجازات التي حققتها من جهة، والتي أخفقت في تحقيقها من جهة أخرى، والواضح هنا أهمية الدقة والواقعية في طرح مقدمات التقييم، حيث إن أي مجاملة أو محاولة تحسينية تعني الانتهاء إلى صورة مشوشة أو مغلوطة عن الواقع وبالتالي الوقوع في تخبطات منهجية في التخطيط للمستقبل، والنتيجة الحتمية ضياع الهدفية بعد الوصول إلى مرحلة التعب من معاندة الحقائق.
إن قضية التقييم هي عبارة عن بيان ملخص لآلة عملية يفترض أن تكون متكاملة، ولا شك في أن الركن الركين لأي عمل هو وجود هدف واضح وغاية متفق عليها بين أطراف العمل، وهذا ما يقوم عليه بنيان التقييم الصحيح.
في القضايا التقييمية ينبغي أن يكون القياس على محورين، أحدهما الهدف والآخر مشروعية أدوات الوصول إليه وموافقتها لمبدأ وقيم الفريق العامل، وفي هذا المضمار بالذات ينبغي التزام الدقة والصرامة في استعراض مواضيع العمل.
لنأخذ التجربة التربوية لأي أسرة مثالاً:
علينا أولاً التوجه للأبوين بالسؤال التالي:
على ماذا تربيان أبناءكما؟
هل تريدان لهم تكوين شخصية قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة دون تدخل مباشر منكما في تحديد تلك القرارات؟
هل تريدان لهم النشوء على توجه فكري معين؟
هل تريدان لهم الحياة من أجل إصابة أعلى مستويات الراحة المادية؟
هل تريدان لهم التأدب على الأدب الغربي من حيث الهدوء والتفكير المرحلي وفصل الدين عن الحياة العملية؟
عندما تحددان الغاية التي تريدان الوصول بأبنائكما إليها يأتي السؤال التالي:
ما هي نسبة التوافق فيما بينكما؟
ثم: ما هي نسبة التوافق بين أدبياتكما والغاية المرجوة؟
ثم: في أي مساحات تخالفان -عملياً- ما تصبوان إليه؟
ثم: ما هي درجة الموافقة بين سلوكيات أبنائكما وأدبيات الغاية المرجوة؟
إن الإجابة الدقيقة والصارمة على هذه الأسئلة المنهجية تبرز معالم التقييم الصحيح بشكل يتيح للوالدين تشخيص الأخطاء والنواقص بشكل جيد، وبالتالي معالجتها على هدي من الظروف الموضوعية المفترضة للبرنامج التربوي.
ثمة مسألة ضرورية نحتاج إلى طرحها قبل التطرق إلى واقع الحال، وهي مسألة التجرد من العقل التبريري وتوهيمات الفكر المسمى (تبريرياً) بالفكر الإيجابي، حيث إن عدمه (التجرد) يعني تضييع الهدف وتحويله إلى حالة هلامية يُتغنى بصورتها في الوقت الذي تسير فيه القافلة في أجواء من الخواء الموضوعي.
لازم هذا التجرد الإيمان الراسخ والثابت بموضوع الغاية والاستعداد للتضحية في سبيل توفير ما يؤدي إليه، فعندما يريد الأبوان تربية أبنائهما على الفضيلة والعفة، لا يعقل أن يضعف أحدهما أمام صورة سينمائية ناقضة لهذا الغرض؛ لأنه سوف يضطر عاجلاً إلى تبرير استسلامه بشكل قد يفقد ثقة إبنه فيه، والنتيجة الحتمية حينئذ هي تضييع الطريق.
إن مثال الأسرة يُسحب على مختلف سوح الحياة الإنسانية، من سياسة واجتماع واقتصاد وما شابه، فالعامل المشترك محوري بينها جميعاً، وهو عامل المفاتيح الموضوعية التي تبينها الأسئلة المطروحة أعلاه.
من هنا نعلم عبثية النداءات المتوالية لوحدة الكلمة والوحدة الإسلامية ودمج الكلمة السياسية وما نحو ذلك من عناوين لا يمكن أن يكون لها وجود واقعي في الخارج، والسبب هو الاختلاف في جذر الرؤى وصلبها، ولنأخذ الواقع السياسي مثالاً..
في حقبة التسعينات توافقت غالبية الأطياف على المطالبة بإعادة المجلس الوطني المنحل بأمر رسمي، ولأن مجموع المشكلين لحركة الشارع المطالب تفصلهم عن الثقافة (البرلمانية) الحقيقية عقود بل قرون من الزمن (الفكري) صدقوا بأن البرلمان هو جهة تلبي كل مطالب الشعب!!
نعم، هذا ما كان يدور في خلد السواد الأعظم من شباب التسعينات، ولكن كبار تلك الحقبة كانوا يدركون صعوبة المرحلة وخطورة الاختيار، ولكن الفرار من المواجهة كان أكثر خطورة، لذلك استمروا في صياغة الخطاب المطالب حتى جاء المنعطف الحاد جداً عندما بدأت الخطوط في رسم الهيكل التأسيسي للمجلس الوطني، فبان جبراً ما كان يحاول الكبار إخفاءه عن الشارع، وهو أن (البرلمان) ليس كما ظن الناس وخصوصاً في بلد مثل البحرين، بل ما تحقق اليوم هو الأفضل جداً والأكمل تماماً، وحتى تتم السيطرة على الوضع رفعت رايات التوافقات السياسية بين من لا يمكن في يوم من الأيام أن يتفقوا على موقف سياسي مصيري، وذلك لاختلاف رؤاهم التأصيلية، وهذا وضع طبيعي جداً عاندوه بكل قوة من أجل المحافظة على الوجود السياسي.
بدأ المشوار بامتصاص غضب متوقع من الشارع (التسعيني) وذلك بإعلان المقاطعة (لبرلمان ليس هو الذي ناضل من أجله الشعب)، وبعد مرور أربع سنوات –وكأن وحي نزل من السماء- تعالت أصوات المشاركة الكاملة من نفس من قاتل في سبيل المقاطعة الكاملة أيضاً، وحينها بدأت الأوضاع الطبيعية باتخاذ موقعها الطبيعي فكان الانقسام الأول، ثم الثاني والثالث، والقائمة لا زالت تستوعب المزيد، أما أم المصائب فهي عندما يأتي الأخوة في المعارضة السياسية لتقييم المراحل السابقة وكأنهم يقولون للفقير الذي لم يرى في حياته أكثر من الألف دينار:
هل تريد أن تصبح مليونيراً؟ فيجيب بنعم. فيقولون له: هل تملك ديناراً؟ فيجيب بنعم. فيقولون له: إذاً أمر المليون بات سهلاً بالنسبة لك، والطريق في التالي:
أنت قادر على توفير دينار في كل شهر، وهذا يعني أن توفير دينارين لن يكون صعباً بالنسبة له. لاحظ بأن الفرق بين الدينار والدينارين لا يعني شيئاً، ولكنه في الواقع قد اختصر عليك مدة الوصول إلى المليونيرية بنسبة 50%.
أما الآن فما رأيك لو نعطيك ربع دينار من عندنا على أن توفر ديناراً إلا ربعاً، فنكون بذلك اختصرنا النصف إلى نصف آخر؟
واقع مؤلم مؤسف سخيف، ولكننا في محل القبول به لأننا قبلنا سابقاً بأن يجتمع صاحب الفكر اليميني مع صاحب الفكر اليساري واختلقنا لهم مشروعاً كارتوني (مثل مشروع المليون) أسميناه مشروع الحوار، وأوهمناهم أو أنهم أوهموا أنفسهم بأنه مشروع مشترك فعلاً، ولكن الواقع الذي لا يمكن الفرار منه أن هذا المشروع مخالف جداً لغايات حزب وأهداف حزب آخر.
لا أقول بانسداد الطريق كما يتوهم (الإيجابيون جداً) ولكنني أقول باستحالة توحيد الكلمة لأنه مطلب يخالف الطبيعة أصلاً، أما الموافق لها فهو أن يعمل الجميع تحت عامل مشترك آخر، وهو عامل احترام الكلمة من جهة واحترام رأي الأغلبية الواعية من جهة أخرى، ولازم ذلك أن يعمل الجميع أولاً في اتجاه التوعية والتثقيف بأمانة وإخلاص.
إن عملية التقييم لا يمكن أن تنجح في مثل هذه الأوضاع التي تسيطر عليها أجواء مليئة بعشق الكذب والهيام في أفيونه..
قال أصحاب (وعد): بسنا فساد.
وأقول بلسان (بني بحرون): بسنا (هرار)..
السيد محمد علي العلوي
25 شوال 1431هـ
4 أكتوبر 2010