اعتقلت بعض السلطات الجائرة واحداً من أشرف المناضلين وأكثرهم ثباتاً على الحق وطريق التضحية، وعندما أدخلوه غرف الظلام انهالوا عليه ضرباً وتعذيباً حتى فقد وعيه تماماً، وحينها تدخل أحد الأخصائيين في علم النفس والقضايا الذهنية فأمر المعنيين بتطويل مدة الغيبوبة قدر الإمكان حتى يقوم هو بالتجهيز لأمر آخر!
كان الأمر الآخر أنه جهز غرفة في بستان أو قصر أو شيء من هذا القبيل بكل ما يخطر على الذهن من مجملات ومطيبات ابتداء من الفرش والأزهار وماشابه، مروراً بأجمل النساء وكل ماتشتهيه النفس، وأضاف إلى ذلك شخصية ألبسها لباساً باهياً ولحية بيضاء جميلة، ومن ثم أمر بأن يؤتى بصاحبنا ويُعمل على إفاقته في وسط هذه الأجواء (الجنَّاوية)..!!
أفاق الرجل فكان كل صوت وحركة تضغط في اتجاه أنه مات في الدنيا فكانت جائزته جنة عرضها السماوات والأرض هو يعيش الآن في جانب منها..
نعم.. أفق يا فلان فأنت الآن في الجنة تتنعم بما وعد الله به المتقين الصابرين من عباده، وهذا ولي الله يخاطبك الآن:
الولي المزعوم: سلامٌ من الله عليك أيها العبد الصالح المجاهد في سبيل الله عز وجل، أنت الآن في جنة الله تعالى، فكيف خلفت أهل الإيمان في الدنيا؟
صاحبنا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته سيدي أيها الولي الصالح، الحمد لله على نعمه، فقد عانيت كثيراً، ولكن رحمة الله وسعت كل شيء.
الولي المزعوم: الحمد لله رب العالمين، وأكثر الحمد على أنك لم تشي برفاق الدرب والجهاد، فهلاَّ آنستني بسيرتهم وكيف أمرهم.
صاحبنا: نعم، الحمد لله أنه ثبتني وزادني صبراً حتى لقيتُه أبيض الوجه، ففلان من أصحابنا خلفته يفعل كذا وكذا، ولله الحمد لله لم يتمكن الشيطان من لساني، فحفظته بين الظالمين، وأما فلان فتركته يعد لكذا وكذا…. والحمد لله..
الولي المزعوم.. نزع اللحية البيضاء وكشر عن أنيابه صائحاً: قم الآن إلى جهنم أيها الخائن…!!!!!
هكذا هي اللعبة، ضغط إعلامي يحول الأوهام إلى حقائق، ويجعل من القبائح أجل فضائل ومحاسن، فنخرج من قوانين الله عز وجل مستسلمين بكامل إرادتنا إلى طرق الضلال والضياع حتى نصل (وقد وصلنا بالفعل) إلى مرحلة (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، أي لا أثر، لا لفكركم ولا لأدبكم ولا لشيء مما تحمله أدمغتكم، بل ولاحتى أحشائكم!!
إننا اليوم نشهد حالة من الفساد الفكري والتبلد في المشاعر المسؤولة إلى حد أن الحديث عنها أصبح جهلاً وتطفلاً على اعتبار أن فساد الفكر اليوم أصبح رونقاً وضياءً، كما وأن تبلد المشاعر المسؤولة أصبح بقدرة شيطان أغبر حكمة وكياسة، وبالتالي فالنقد في هذا الاتجاه لايمكن أن يكون بناء؛ لأنه وبمقاييس اليوم أصبح نقداً للصح والصواب.. وخذ بعض الأمثلة:
- أصبح (الخمر) في بلادنا موضوعاً لقانون يناقشه نواب وشوريون، فأصبحت فكرة منعه تدخلاً في الخصوصيات، وبالتالي فـ (الخمر) اليوم حاله (قانونياً) حال حزام السلامة في السيارة!! (الصح هو: عدم مناقشة موضوع أنهى الشارع المقدس أمره فحرم شربه وبيعه والتقلب فيه. فالقضية محسومة وغير قابلة للنقاش أصلاً. أما مناقشتها فتعني فيما تعنيه تمييع الدين وتحويله إلى قطعة خشب على رقعة شطرنج!!).
- بعد أن كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يطلب الأذان من بلال عندما يشعر بضيق، أصبحت اليوم (الموسيقى) هي التي تريح الأعصاب وتغذي الروح!!
- في عصور المجد الإسلامية كان المسجد هو المعسكر الفكري ومحل التعبئة الروحية، وذلك لعدة اعتبارات لايمكن أن توجد في غيره. أما اليوم فصلاة الجماعة أصبحت من الترفيات، والحث عليها صار دليلاً على التخلف وخلو اليد من المشاريع المواكبة للعصر!!
إن هذا الانقلاب الصارخ والصريح في المفاهيم هو نتاج طبيعي جداً لضغط إعلامي مدروس يمارسه الشيطان وجنوده عن سابق فهم وخبرة، وفي المقابل نستسلم نحن لكل ما يملى علينا مما هو موجود فعلاً على أجندته الإفسادية، بل وأكثر من ذلك أننا نعين على تدمير أنفسنا مع إقامة جملة من عبارات الحكمة الفاسدة، وشعارات أغبى أنواع التذاكي..
السؤال الآن: إلى متى نسمح لأنفسنا بأن نكون لعبة (طينية) في يد الشيطان وجنوده يشكلون عقولنا كيفما أرادوا ومتى أحبوا؟ إلى متى…؟؟
السيد محمد علي العلوي
21 جمادى الأولى 1431هـ
5 مايو 2010