يرى فتنطبع صورٌ في ذِهنه.. يُرَكِّبُها فتتشكل عنده صورةٌ أخرى ينظر إليها ويقرر (رأيًا)، وهذا (الرأي) في حقيقته مكمل للصورة المركبة في ذهنه عندما يريد تحديد موقف ما أو أن ينقل (رؤيته) إلى الآخرين، وبذلك فإن (الرأي) يعتمد في دقته ومدى صوابيته على أمرين مهمين:
الأول: الزاوية أو الزوايا التي ينظر من خلالها إلى الصور قبل تركيبها في الذهن.
الثاني: طريقته في تركيب الصور لتشكيل صورة جديدة.
وبناء على هذه المقدمة المبسطة نتمكن من تقسيم التوجهات أو الأطروحات أو (الآراء) إلى ثلاثة أقسام رئيسية، مع الأخذ في الإعتبار الدور الكبير الذي تلعبه الخلفية الثقافية وآيديولوجية الإنسان وحالته النفسية في توجيه رؤاه ونظراته وتركيباته للصور بشكل من الأشكال..
القسم الأول: قسم يرى بصدق ويركب الصور بصدق وحدد (الرأي) بصدق.
القسم الثاني: يرى ما يراه الأول بالضبط، إلا أنه يتعمد تركيب الصور بحيث تخدم مصالحه الشخصية فيكون (رأيه) تابعًا للطبيعة التي رافقت تركيباته الذهنية.
القسم الثالث: يلتقط مجموعة سريعة من الصور ليوهم نفسه بأنه صاحب (رأي).
من الواضح أن الرأي من القسم الأول هو الجدير بالإحترام والتقدير والتقبل مهما كان الاختلاف معه، وأما الثاني والثالث فأشد خطرًا على المجتمعات من الأسلحة الكيماوية؛ إذ أنه يدمر الثقافات ويورث عاهات في الفكر وأمراض في القلوب، إلا أن المشكلة في الواقع ليست في طريقة التعامل مع القسمين الثاني والثالث بقدر ما هي في أهلية الإنسان للحكم على رؤية أو رأي أنه من منهما. أما الثالث فلا صعوبة في كشفه، وبذلك تبقى المشكلة الأكبر مع القسم الثاني؛ فهو في الغالب يمتلك قدرة كبيرة على التلون وإظهار رؤاه على انها من القسم الأول، وهنا تقع مشكلة كبرى خصوصًا إذا تجرأ أحد على مناقشته مناقشة بالحجة والبرهان في ما يطرح من آراء ومشاريع.
وحتى لا أدخل في عراك مع الأفهام المنجلية فإنني أطرح رؤية في حل المشكلة، وأعني طبعًا مشكلة تشخيص الرأي والتعرف على قسمه الحقيقي.. فأقول:
أولًا: لا بد من الرجوع إلى مجموعة من الثوابت تتخذ كقواعد وأصول تقاس عليها الآراء عمومًا.
ثانيًا: تجنب الخلط بين المناقشة الجادة للرأي والموقف من صاحبه.
ثالثًا: التركيز على تفعيل ورفع مستوى الموضوعية في مناقشة أي رؤية أو رأي.
رابعًا: لا يتحدث أحد في أوسع مما يدرك، فالصور بتكثرها والوعي بها تعطي آفاق جديدة لا يتمكن من إدراكها إلا المحيط بالصور المؤهلة لها.
خامسًا: لا بد من استيعاب تمام الأمر وفي تمام أبعاده، وعليه فمن الواجب جدًا تجنب الاستعجال وطرح رأي لم يدرك غير جانب من جوانب الأمر أو الحقيقة.
سادسًا: السؤال والاستفهام قبل التشخيص والحكم، ولا بد من أن يكون السؤال بنية المعرفة والعلم لا بنية الإحراج وإبراز العضلات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر مهم جدًا هو: ضرورة التوقف عن أي حوار أو نقاش أو مناظرة ما لم يتوفر أطرافها على أرضية مجزية من المشتركات، وأقصد بالمشتركات تلك الثوابت والأصول والمرجعيات التي يحتكم إليها أطراف الحوار، كما وأنه من المهم أيضًا اعتماد الردود الحلية وتقديمها على الردود النقضية التي عادة ما تثير وتستفز المخاطب أكثر من كونها شاحذة للهمم على طريق طلب الحق والحقيقة.
في نهاية الأمر فإن الآراء محترمة ولا بد من إفساح المجال أمام التعددية، ولكن من الإجرام في حق المجتمع إطلاق هذه المطالبة في كل ما يطرح من آراء ورؤى، إذ أن فيها الكثير مما ينبغي رفضه وتجب محاربته، وأما الحاكم هنا فالعقل الإنساني بما هو عقل تقوم عليه مجموعة من المسلمات التي لا ينكرها غير معاند جاهل وإن كثر علمه، فهو علم بلا وعي.
السيد محمد علي العلوي
15 شوال 1433هـ / 3 سبتمبر 2012م