يقطع المسلمون بموافقة النصوص الواردة عن جهة العصمة، القرآن الكريم إجماعًا، والحديث الشريف بحسب المبنى، للحقيقة والواقع، غير أنَّ جملة من الدراسات والتجارب العلمية انتهت إلى خلاف ما أفاده النص، ممَّا تسبَّب في شيءٍ من الاضطراب عرض على بعض المؤمنين، وذهب آخرون لتحكيم الدراسة والتجربة على النص، بل وأبدى بعضٌ اطمئنانهم لمعياريتهما في قبول ورد بعض النصوص، أو لا أقل الاضطرار لتأويلها وتفسيرها على غير وجهٍ بحيث تظهرُ موافقة مسنجمة مع التقرير العلمي التجريبي.
ذاك نتيجة طبيعية لكبرى مُسَلَّمة، وهي قولهم: (الإسلام نافع لكلِّ زمان ومكان)، غير أنَّ ما يراه النظر القاصر تحول هذه الكبرى على مستوى الفهم إلى مغالطة خطيرة، وهو ما تبينه هذه الورقة إن شاء الله تعالى.
نموذج خارجي:
جاء في المحاسن[1]:
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “إيَّاكم والإكثار من شرب الماء؛ فإنَّه مَادَّة لكُلِّ داء”.
وفى حديث آخر “لو أنَّ الناس أقلُّوا من شُربِ الماءِ لاستقامَت أبدانُهم”.
وقال أبو عبد الله (عليه السلام) وهو يُوصِي رجُلًا، فقال: “أقللْ من شرب الماء؛ فإنَّه يَمُدُّ كلَّ دَاءٍ، واجتنب الدواء ما احتمل بَدَنُك الداءَ”.
وعن أبي طيفور المُتَطَبِّب، قال: “نهيتُ أبا الحسن الماضي (عليه السلام) عن شرب الماء. فقال: وما بأس بالماء، وهو يدير الطعام في المعدة، ويُسْكِنُ الغضب، ويزيد في اللبِّ، ويُطفِئُ المرار؟!”.
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: “لا بأسَ بكثرة شرب الماء على الطعام وأنْ لا يُكثر منه. وقال: أرأيتَ لو أنَّ رجُلًا أكل مثل ذا طَعَامًا (وجمع يديه كلتيهما لم يضمهما ولم يفرقهما)، ثُمَّ لم يشرب عليه الماء؟ أليس كانت تنشقُّ معدته؟!”.
أشير إلى أنَّني لستُ بصدد الجمع وحلِّ ما يبدو تعارضًا، فمقام هذه الورقة ليس مقام جمعٍ وحلٍّ.
أمَّا من الجهة العلمية البحثية، فقد قال باحثون: “أنَّ شرب الماء بكثرةٍ يُمكِنُ أن يكون إستراتيجية جيدةً للحفاظ على الصحة العامة، والحدِّ من استهلاك السعرات الحرارية الكثيرة التي تجلب السمنة”[2].
و”يُوصي خبراءُ التغذيةِ بشرب 8 إلى10 أكواب من الماء كلَّ يومٍ للحفاظ على صحة جيدة؛ كما يُسَاعِدُ الماءُ على الحفاظ على رطوبة الجسم بشكل كبير، وهو أمرٌ ضَرُورِيٌّ، لأنَّ أغلبَ خلايا الجسم تحتاج إلى الماء لتعمل بشكل صحيح”[3].
وأشير هنا أيضًا إلى أنَّني لستُ بصدد استشراف الآراء الطبية والبحث عن حلول للتعارض الواقع بينها في موضوع الإكثار والإقلال من شرب الماء، كما وأنَّ عقليتي النظرية تنصرف بي عن مناقشة المصاديق والأمثلة؛ فذاك يبتعد عادة بالطرح عن استيعاب وإبراز المفهوم بالموضوعية المطلوبة.
لذا، أطرح أمرين:
الأوَّل: كبرى (الإسلامُ نَافِعٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ)
يطرحُ البعضُ فِكرَةَ ضَرُورَةِ مُواكَبَةِ الإسلام لواقع الحياة وما فيها من تطور وتلاحقٍ حضاري؛ والحجَّة في ذلك نفسُ كبرى (الإسلامُ نافِعٌ لكلِّ زمانٍ ومَكَانٍ)، ومنها صار ما دون المواكبة المقصودة تخلُّف ورجعية وأصولية مذمومة.
وبما أنَّ واقع التقدُّم العلمي قضى بأهمية الإكثار من شرب الماء، ومن أكل السمك، فلا مفرَّ من تضعيف النصوص المعارضة، أو في أحسن الأحوال تأويلها، وإلَّا لما صحَّت الكبرى، وعدم صحتها كارثة معرفية معضِلة.
أقول: (الإسلامُ نافِعٌ لكلِّ زمانٍ ومَكَانٍ)، هذه كبرى صحيحة بلا أدنى شكٍّ على الإطلاق، غير أنَّها تُفهم بفهم كبرى أخرى، هي مُفاد قوله (صلَّى الله عليه وآله): “يا أيُّها الناس، إنِّى تَارِكٌ فيكم الثقلين، أمَا إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِما لن تضلُّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي؛ فإنَّهُما لن يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدًا عَلَيَّ الحوض”[4].
إنَّ ظهورَ “إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِما” في أنَّ الواقع الخارجي يُقَوَّمُ بالثقلين المُقدَّسين أجلُّ من أن يناقش، وبالتالي فالحق أن يقول بوجوب مواكبة الواقع الخارجي للإسلام، لا العكس، وبالتالي فلا عِبرَة لاستحسانات الناس وانجذاباتهم في هذه الحياة الدنيا، بل حتَّى هذه يجب تقويمها بمرادات ومقاصد الكتاب والعِترة.
وبذلك ظهرت جهة المغالطة في إجراء كبرى (الإسلامُ نافِعٌ لكلِّ زمانٍ ومَكَانٍ).
الثاني: مَوضُوعيَّةُ القَضيَّةِ محلُّ الكَلامِ:
يتحدَّث الثقلان المقدَّسان في الحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان بيئة ومجتمعًا وطبيعةً، ويعطي موضوعات هذه الرؤية عنوان (المعروف)، وفي نفس الوقت يرفض بوضوح ما يخالف حِكْمَةَ نِظَامِ الوجود، ويسميه (مُنكَرًا)، ومن أوضح النصوص قوله تعالى فيما يحكيه عن قول إبليس الرجيم (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا)[5]، والخلق هو كلُّ ما أمضى الله تعالى عليه القوانين والسنن، ومنها ما يرجع إلى فعله المباشر كطلوع الشمس وغروبها، ومنها ما أوكل أمره للإنسان كما في قوله جلَّ في علاه (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)[6]، وعندما عكس الإنسان الآية فجعل منامه نهارًا ومعاشه ليلًا، أو أخلَّ بهذه المعادلة بشكل أو بآخر، حقَّق شيئًا من قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[7].
بالرجوع إلى المثال، فشرب الماء ليس مسألة مستقلة لا ارتباط لها بغيرها، بل هي في منظومة واحدة مع الأكل وطبيعة الأسمدة والمعالف، وطين البناء، والأدوية الطبيعية، وما إلى ذلك من مقومات الحياة الطبيعية المتوافقة تمامًا مع جسم الإنسان.
هل نأكل أو نشرب اليوم طعامًا أو شرابًا طبيعيًا؟ حتَّى الماء معالجٌ، والخضروات مُشبَّعة بالكيماويات والمبيدات، ومثلها حكمًا الأنعام والدواجن!!
نحن اليوم نعيش في وسط ألغام من الاسفلت ومحطات وأسلاك الكهرباء، ومضخات النفط، والمصانع.. وما إلى ذلك..
قد يكون الإكثار من شرب الماء نافعًا في هذا العصر لمعالجة جهات ممَّا أفسده الإنسان بتغييره خلق الله تعالى، ولكنَّه لا شكَّ في إحداثه لأضرار أخرى بالكلى مثلًا.
فلتُجرى دراسات جادَّة ومنصفة للمقارنة بين الأمراض والأوضاع الصحية قبل ثمانين سنة وبينها اليوم، ولتُدرَس قوَّة الإنسان ذهنًا وجسدًا، لنقف على حقيقة ما نعيشه اليوم إن كان تقدُّمًا وحضارةً، أو العكس!
فأقول:
لسنا بحاجة لتخطئة نتائج الدراسات والبحوث العلمية، كما وأنَّنا لسنا بحاجة لتضعيف الروايات المعارضة بنتائج تلك الدراسات؛ فاستيعاب موضوعية القضية يوقفنا على حيثيات موضوعها وتأثير المتغيرات التي تطرأ عليه، فنفهم حينها ظروف النسبة فيها بما يزيل الشبهات التي قد تُلجِئ لمعالجات خاطئة.
بقي تنبيه خاص، وآخر عام:
أمَّا الخاص، فنحن لم نُحدِّد مقدار الإقلال والإكثار في شرب الماء، فقد يكون ما يقصد به إكثار اليوم هو المعدل الطبيعي الذي يحث عليه أهل البيت (عليهم السلام). وكيف كان، فقد بان اختلاف مقام ما نحن فيه.
وأمَّا العام، فمن الخطورة بمكان استسهال تحديد مناطات وملاكات الأحكام تعسُّفًا، فقد تكون الجهة التي تنظر إليها الرواية الشريفة غير ظاهرة لنا، بل قد تكون خارجة عن القدرة الإدراكية الطبيعية للإنسان، وهذا لا يعني مخالفتها للقانون التكويني، وهنا يأتي محل التسليم العلمي والواعي للثقلين المقدَّسين، وهو تسليم لا يرتبط في سلوكه بإدراك المناطات والملاكات.
السيد محمَّد علي العلوي
10 شعبان 1439 للهجرة
……………………………………………………………………………………………
[1] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 2 – ص 571 – 572
[2] – المجلة الإلكترونية: عرب48 (شرب المياه يقي من أمراض القلب) تحرير: محمود مجادلة
[3] – المجلة الإلكترونية: صحتي (فوائد شرب الماء)
[4] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 433
[5] – سورة النساء، الآية 119
[6] – سورة النبأ، الآيتان 10 – 11
[7] – سورة الروم، الآية 41