((التجربة الشعورية وانتزاع الكلي – كسر العادة))
إنَّ الإنسان يدرك نفسه ويدرك الأشياء التي حوله التي هي خارجة عن نفسه، لكن هل إدراكاته على نحوٍ واحد أم أنها مختلفة؟
يمكن لنا أن نقرب معنى الإدراك بقولنا أنَّه انكشافُ شيءٍ للإنسان لم يكن منكشفًا له في اللحظة التي أُدْرِكَ فيها، ولتوضيح الفكرة نضربُ مثالاً يقربها لأذهاننا: أنا أعلم بنفسي وأحوالها وشؤونها وما يعرضُ عليها، ولا أجدُ فيها حاليًا أيَّ شعورٍ، ثُمَّ حدث لي في نفسي شعورُ الخوف أو الخجل، فانكشف لي في نفسي شيءٌ لم يكن منكشفًا من ذي قبل، وهو هذا الشعور الجديد.
إنَّ هذا النوع من الإدراك المتعلق بالمشاعر يُسَمَّى في علم المنطق بالعلم الحضوري، لكنْ ما معنى ذلك بالدقة؟ إننا سنفهمه عندما نتعرّفُ على ما يقابله.
إنَّ الإنسان كما يُدْرِكُ على النحو السابق فإنَّه يدرك على نحو آخر، فعندما أفتحُ الثلاجة وأجدُ على الرفِّ تفاحةً حمراء، فإنَّه يحصل لي انكشافٌ جديد لم يكن من ذي قبل وهو إدراكي لوجود التفاحة على رفِّ الثلاجة، وهذا نوعٌ من العلم يباين النوع السابق ويُسَمَّى بالعلم الحصولي.
نتساءلُ الآن: ما هو الفرقُ بين العلمين؟
إنَّ علمي الأول المُسَمَّى بالعلم الحضوري يختلف عن العلم الحصولي، إذ أنَّه إذا شعرتُ بالخوف أو الخجل أو غير ذلك من المشاعر فإنني أجدُ ذلك في نفسي حاضرًا، ولكن عندما أدرك التفاحة الموجودة على الرفِّ فإنَّ التفاحة لا تكونُ حاضرة في نفسي، بل ما يحضر هو صورةٌ تحكي لي عن التفاحة الموجودة في الخارج، أو يمكن أن تقول يحضر لي معنىً أو شيء يُعَبِّرُ عن الأمر الخارجي إذا لم ترتضِ التعبير السابق.
إذن: إذا علمتُ علمًا حضوريًا حضرعندي نفس الشيء، فشعور الخوف يحضر عندي بنفسه، لكن إذا علمتُ علمًا حصوليًا فإنَّه لا يحضر عندي نفس الشيء، بل صورته ومعناه.
نقول الآن: يُقسِّم علماءُ المنطق عِلمَ الإنسان إلى قسمين:
علم حصولي: وهو حضور صورة الشيء لدى العالِم.
علم حضوري: وهو حضور نفس الشيء لدى العالِم.
ثُمَّ إنَّهم يُقَسِّمُونَ أيضًا مفاهيم الإنسان إلى قسمين:
كُلِّي: وهو المفهوم الذي ينطبق على أكثر من واحد، مثل: (مفهوم الشجر) الذي ينطبق على شجر التفاح والبرتقال والليمون…، فمفهوم الشجر كلي.
وجزئي: وهو المفهوم الذي ينطبق على شيءٍ واحد، مثل: مفهوم الشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة، فهذا المفهوم ليس له إلا مصداقٌ واحد وينطبق على شخص واحد، فهو مفهوم جزئي.
إلى هنا تناولنا تقسيمين منطقيين على بساطتهما، ونحاول الآن أن نعقد ذلك ونربط التقسيمين ببعضهما:
إنَّني إذا شعرتُ بشعورٍ كالخوف ثُمَّ بعد مدةٍ شعرتُ بشعور الخوف أيضًا، فهل هنالك فرقٌ بين الشعورين؟
إنَّنا عندما نتأمل نجدُ أن كليهما يصدق عليه مفهوم (الخوف)، لكنهما أيضًا مختلفان من جهة أخرى وهي أنَّ كلاً منهما شعورٌ حصل للإنسان في لحظةٍ خاصة، ولأنَّهما وقعا في زمنين مختلفين كانا اثنين ومتغايرين.
فأنا عندما أشعرُ أشعرُ في زمنٍ خاص وظرفٍ خاص وبسبب خاص، فلذا يكونُ شعوري هذا مفهوم جزئي، وتجربة خاصة في لحظة خاصة.
إذن: هنالك مفهومٌ عام للخوف، أو حسب الاصطلاح مفهوم كلي، وهنالك جزئيات ينطبق عليها ذلك المفهوم وهي مختلفة لكن يجمعها مفهوم الخوف الكلي.
إنَّ هذا الانتزاع للمفهوم الكلي عن طريق المشاعر، وقد أنتزعه لا عن هذا الطريق بل عن طريق الأمور المحسوسة التي أجدها في الخارج، كما لو رأيتُ كائنًا حيًّا لم يره أحدٌ من البشر من قبل، و أنا أولُ من رآه، فإنَّني أمتلك صورةً عنه خاصةً به، و أكوّنُ صورة أخرى عامة وهي أنَّ لهذا الكائن الحي كائنات أخرى تشابهه وتشترك معه في الحقيقة والنوع، وهذا المعنى الثاني هو المفهوم الكُلِّي الذي ينطبق على الكائن المرئي وغيره.
فهنالك نوعان من انتزاع المفاهيم الكُلية: انتزاعٌ من الشعور وانتزاعٌ من غير ذلك، فلذا يمكنُ أن نقول: أنَّ الكلي المنتزع قد يكونُ كليًّا شعوريًّا وقد يكون غير ذلك، وما يهمُّنا هو النوع الأول.
إلى هنا وصلنا إلى الافتراض الذي نفترضه وهو: ((التجربة الشعورية وانتزاع الكلي)) وتَبَيَنَ أن المقصود من الكُلِّي هو الكُلِّي الشعوري، وأقفُ هنا للتفرقة بين نوعين من الكُلِّي الشعوري:
أوَّلاً: الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا.
ثانيًا: الكُلِّي الشعوري الذي نُسقِطُه على الآخرين.
عندما نشعرُ بمشاعر الخوف وتتكونُ في أنفسنا تجربةٌ حول هذه المشاعر، فإنَّ تجربتنا جزئية خاصةٌ بنا متلائمةٌ مع ملكاتنا النفسية من الشجاعة وثبات الجأش والوقار وما يقابل ذلك، فنحن ننتزع الكُلِّي بحسب تجربتنا وإذا صح لي أن أعبر: (كُلِّي شخصيتنا).
ثُمَّ نُوسِّع هذا المفهوم لغيرنا من البشر بل حتَّى الحيوانات ونحاولُ أن نتصور معنىً عامًّا مشابهًا لِمَا جَرَّبْنَاه لكنَّه لا يتساوى معه لكي نوسِّعه إلى أوسع من تجربتنا الشخصية.
إنَّ النوع الأول هو الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا، والنوع الثاني هو الكُلِّي الشعوري الذي نُسْقِطُهُ على الآخرين، وما أقصده في المقال هو الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا، ولنصطلح عليه بالكُلِّي الذاتي اختصارًا وتسهيلاً.
ما هي ميزةُ الكُلِّي الذاتي التي مَيزتهُ عن مُقَابِلِهِ؟
ميزتهُ أنَّه مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا بتجربة الإنسان والاقترانات التي اقترنت بهذه التجربة، فمفهوم الخجل بالنسبة للشخص الخجول يعني له معنىً ناشئ عن تجاربه وارتباكاته وتلعثمه، والمحتملاتُ الذهنية تجاه موضوع يحتاج إلى جرأة بالنسبة للشخص الخجول تختلف عنها بالنسبة للشخص الجريء، كما أنّ الشخص الجريء بطبعه لم يشعر بمشاعر الخجل التي يجفُّ معها اللسانُ بالحلق وتجعل الفرائص مضطربة.
ومن هنا نقول: إنَّ الإنسان يمرُّ بمشاعر جزئية يجمعها كُلِّيٌ ذاتيٌ واحِدٌ ينتزعه منها، ويمكن أن يكون هذا الكلي الذاتي مؤثرًا على ما يتوقعه بالنسبة لنفسه في المستقبل.
إنَّنا عندما نصومُ نشعرُ بمشاعر خاصة ناشئة عن صيامنا، فما هي الكليات التي يمكن أن ننتزعها منها؟ وماذا ستأثر على مستقبلنا وتوقعنا حول ذواتنا؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله تعالى.
مهدي صالح الجمري