يفهمُ عُمُومُ الناسِ الإلحادَ أنَّه القول بإنكار وجود خالقٍ لهذا الكون الواسع، فالملحد يُنكر الألوهية من رأس، ويذهب إلى أنَّ الفوضى هي الأساس في انتظام الأمور، ولذلك يُنسبُ فلاسِفَتُهم إليها فيُقال: (المُفَكِّر الفيلسوف الفوضوي) أو (اللا سلطوي).
أرى أنَّ الإلحادَ والقولَ بالفوضى الخلَّاقة هو في الواقع نِتَاجٌ لمقدِّمات ترجع لفلسفةٍ ترتكز على أمرين:
الأوَّل: تنامي العقل البشري.
الثاني: أصالة الأرض بالنسبة للوجود البشري.
يُرجِعُ المُلحِدُ القول بالإله إلى فقرِ التجربة العقلية للإنسان، فلدفع الخوف والقلق والاضطراب المعلول للحوادث الطبيعية تارة، وظلم المستبدين تارة أخرى، لجأ -الإنسانُ- لاختراع (فكرة) القوة الغيبية الخارقة التي أطلق عليها اسم (الإله)، ولكنَّه كلَّما تقدَّم في معارفه، واتَّسعت تجاربه، يجد نفسَه في غنى عن تلك القوة، فهو اليوم قادر على إدارة الأرض بشكل تقلص معه دور (الإله)، وهكذا كلَّما تنامى العقل، كلَّما استغنى الإنسان عن (تبني فكرة) الإله.
ومن هذه النقطة جاء قول المُلحِد بأصالة الأرض بالنسبة للوجود البشري، فلا ما وراء ولا غيب ولا قوة خارجية خارقة، وليس من شيء إلَّا محورية الإنسان وتجذر نشاطه وبقائه في هذه الأرض، ولذا كان عليه الاجتهاد على طريق التنمية العقلية كمقدمة موضوعية ضرورية لتنمية الأرض وتحويلها إلى جنَّة ينعم فيها الإنسان.
تُشَكِّلُ هذه الفلسفة أرضية الفكر الإلحادي التي انطلق منها وبحسبها لإيراد الكثير من النقوض على المباني الدينية السماوية بشكل عام، وقد وجدتُ أنَّها ترجع في أغلبها وبشكل عام إلى إشكال فلسفي واحد، وهو: ظرفية المكان والزمان.
أكتب حاليًّا رسالةً في إبطال نقوضهم، ولكنَّني هنا أريد التنبيه إلى أمر آخر..
لم يعد أصحابُ الفلسفات والرؤى الكبرى ليعتنوا بإعلان الناس عن اعتناقهم لفلسفاتهم ورؤاهم، فالشيوعي الماركسي اليوم -مثلًا- لا يبحث وراء نشر رايته الحمراء بمطرقتها ومنجلها لترتفع بين الجماعات في بقاع الأرض، ولا ينتظر الرأسمالي من أي أحدٍ، كبيرًا كان أو صغيرًا، حاكمًا أو محكومًا، أن يُعلِن عن اعتناقه الرأسمالية، ولكنَّ هؤلاء يكتفون تمامًا بأن يعمل ويعيش الناس وفقًا لنظرياتهم وأدبياتهم، ثُمَّ أنَّ نفس الناس بمختلف أديانهم وانتماءاتهم سوف يدافعون عن نظريات وأدبيات الماركسية والشيوعية والرأسمالية، بل ولن تبتعد الجهود عن محاولات شرعنتها كُلٌّ بتطويع دينه!
يسلُكُ أولئك طريقهم نحو إصابة أهدافهم بتفريق أجزاء العلَّة وتوزيعها على مراحل زمنية مدروسة، وكلَّما تحقَّق جزءٌ في زمنٍ تحرَّك على الخطِّ الثقافي لينضم إليه مُتحقِّقٌ غيره، وهكذا إلى أن تكتمل العِلَّة باجتماع أجزائها، فيُصدَم المجتمع بمعلول لم يكن ليتوقعه يومًا!
فلنرجع إلى الوراء قليلًا..
نلاحظ كيف أنَّ التوجه الثقافي العام، وتحديدًا من بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) تميَّز بمعارضته الصريحة للقوانين الحاكمة عمومًا، وعلى وجه الخصوص نوعين، هما: القوانين الدينية، والقوانين العرفية. كان -بحسب تتبعي- التنظير لهذا التوجه الطريقي من مجهودات العمل الحداثي بدايةً من القرنين الخامس والسادس عشر، وقد مرَّ بمراحل تطورية حتَّى قفز في دول الشرق بعد الحرب العالمية الثانية.
اتَّسمت مراحلُ العقود الأخيرة بنشاط عملي غير مسبوق على صعيد ضرب وإعدام الإطار الذوقي العام في المجتمعات البشرية.. موضة الفستان النسائي الطويل، تقبها مباشرة موضة الفستان النسائي القصير جِدًّا حدَّ النقيض، وموضة الواسع بعد الضيق، وتمليس الشعر ثُمَّ نفشه..
نعم، من الطبيعي أن تتغير الأذواق، وهو أمر لا إشكال فيه على الإطلاق، ولكن ليس من الصحيح ولا من الطبيعي أن ينتقل الذوق من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ إذ أنَّ مسألة الذوق راجعة إلى ملائمات نفسية، وهذه لا يمكن أن تتغير بهذا الشكل العنيف وبلا ضوابط ثقافية وازنة.
مع هذه النقلات تداخلت ثقافة جديدة، هي ثقافة ضرب أصل الذوق، فانتشرت موضة السراويل بألوان القذارة (dirty trousers)، والسراويل أسفل عظمتي الحوض (low waist)، والسراويل الممزقة (cut trousers)، وقصَّات الشعر الغريبة وعمليات تغيير الشكل، وما نحو ذلك من حركات تخلق في المجتمعات ثقافة التمرد على مختلف أنواع ومستويات السلطة والنظام.
ومن جهة أخرى انتشرت بشكل أخطبوطي مُعَقَّد ثقافةُ (المال)، حيث لا معيار ولا ميزان غير الوجاهة الدنيوية.
يدخل الطفل الروضة ومن ثُمَّ المدرسة والجامعة للحصول على شهادة تؤهله لوظيفة ذات مُرَتَّبٍ يكفيه للاقتراض من أجل الزواج والسيارة والبيت وما نحو ذلك. وليس التعلم في هذه المعادلة من أجل العلم، والدليل أنَّ غير المدارس النظامية مرفوض وإن ضُمِنَت فيه أعلى مستويات التحصيل العلمي!
الشواهد كثيرة لا يسعني حصرها هنا، ولكنَّ المُتحصل أن المجتمع اليوم لا يتمكن من التفكير في غير المعاش، كما وأنَّه على استعداد كبير لتبرير تنازلاته عن الكثير من قِيَمِهِ ومبادئه واخلاقياته، بل وإظهار هذه التنازلات تحت عنوان الحِكمة والتعقل.
معاش الناس اليوم في الدنيا من أجل الدنيا، وهذا هو عين ما تقوم عليه فلسفة الإلحاد، ولذا فإنَّ التشكيكات في عقيدة التوحيد وفي الغيبيات وفي الإسلام من جهة النظر العلمي التحليلي طبيعية جِدًّا بعد اجتماع الكثير من أجزاء علَّتها.
هل نتمكن الآن من استيعاب هذا الحديث استيعابًا مستقيمًا صحيحًا، أو أنَّنا سوف نرميه عرض البحر لعدم استقامته مع ما عليه العالَمُ اليوم؟
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “كان فيما وعظ به لقمانُ ابنَه: يا بُني، إنَّ الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له وإنَّما أنت عبدٌ مُسْتَأجَرٌ قد أُمِرْتَ بعملٍ ووُعِدتَ عليه أجرًا، فأوف عملَكَ واستوف أجرَكَ، ولا تَكُنْ في هذه الدنيا بمنزلةِ شَاةٍ وقَعَتْ في ذرعٍ أخضرٍ فأكلت حتَّى سمن فكان حتْفُها عند سمنها، ولكِن اجعل الدنيا بِمَنزِلَةِ قنطرةٍ على نهرٍ جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر. أخربها ولا تعمرها، فإنَّك لم تؤمر بعمارتها”.
أقول: القضية اليوم ليست في ردِّ شبهات المستشكلين، ملحدين كانوا أو غير ملحدين، فهذا هيِّنٌ مع العقلاء وطلَّاب الحق، ولكنَّ القضية في الانتشار المستحكم لأجزاء العِلَّة الملزومة للقول بمختلف ما يقع على خطِّ الحداثة، ومنتهاه القول بالإلحاد، وفي تصوري أنَّه لا حلَّ إلَّا بالعمل على نهضة ثقافية فكرية حقيقتها المراجعة الجادَّة للواقع وقياسه على منظومة الثقلين المقدَّسين، الكتاب العزيز والعترة الطاهرة، ولهذه النهضة مقدمات وملازمات ولوازم أتطرق لها في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
السيد محمَّد علي العلوي
13 شعبان 1438 هجرية
1 تعليق
[…] [1] – مقال: فلسفة الإلحاد ومنهجية أجزاء العِلَّة: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4406 […]