تنشأ عقلية التغيير من حالةِ رفضٍ لواقع قائم، وهذا أمر طبيعي بل هو تكويني في جوهر هذا الوجود الواسع؛ إذ أن حركة التجديد والتخلص من السابق بقوة اللاحق الضد أو الموافق أصلٌ في حيوية عالم الإمكان، فلا إشكال هنا والتغيير حقيقة آنية، ولكن الكلام في العنوان الذي يستند إليه التغيير والعنوان الآخر الذي ينطلق إليه، أما التغيير التكويني من جميع الجهات فيسير وفق جعل إلهي كامل، ولا خيار له فيه على الإطلاق، وأما التغيير الذي يمارسه الإنسان فرأسه الأصل الثقافي ومحركية الفكر، وهذا الأخير هو ما تعني به هذه السطور.
وهنا محاور أصيلة:
- الأول: المنشأ الثقافي في عقلية التغيير:
يحيا الإنسان ثقافيًا على موروثات يتفاعل معها ولا يخرج عن أطرها وإلا نُعِتَ في مجتمعه بالشاذ، وهذه الموروثات تنقسم إلى أصول أرساها الكبراء التاريخيون، وأخرى اصطلحت عليها الأعراف العامة، وفق هذه وتلك قيم الفطرة المغروسة في الذات البشرية، وتنطلق العقلية التغييرية في حراكها، تارة بإرادة العودة بالمجتمع إلى تلك الأصول بعد ظهور حالات المخالفة وغلبتها، وتارة أخرى برفض للموروثات وإرادة الانتقال بالمجتمع إلى أصول جديدة إما أن تكون لمجتمعات أخرى أو أنها مجموعة معدلة من مورثات مختلفة جغرافيًا وفلسفيًا، وفي ثالثة فإن الرفض ينصب على كل موروث وقانون وقيمة، والإرادة هنا تتجه إلى إرساء قانون اللا قانون.
هذه منطلقات ثلاثة هي الأشهر، ومن لا يرى نفسه في أحدها أو غيرها المعنون، فهو في الواقع أداة تستعملها العقول التغييرية لتحقيق ما تصبوا إليه من تغيير يوافق منطلقاتها.
- الثاني: الوجود التاريخي في عقلية التغيير:
ليس من أمة على الإطلاق إلا وتستند في قيامها على نظريات فلسفية انتقلت فيها من طورها النظري إلى طور البناء الثقافي والسلوكي والفكري، ومثال ذلك القرآن الكريم والعترة الطاهرة، ثقلان مقدسان يحملان الفلسفة الكاملة للإسلام الذي قدم للعالم أمة من خلالهما، وفي جميع الأحوال فإن ادعاء العقلية التغييرية توفرها على وجود تاريخي يبقى ادعاءً إن لم يُسْنَد ببيان يثبت التوافق بينه وبين الأصول والمنطلقات الفكرية لها، وإلا فمجرد الشعارات والادعاءات لا معنى له غير استمالة العواطف وتوجيه الحماسة الجماهيرية في الاتجاه الذي تريده القوى العقلية المتحكمة بالجماهير والمسيرة لها.
- الثالث: الانفصال أو الامتداد التاريخي في عقلية التغيير:
عندما قامت الأمم على نظريات فلسفية بعينها، فإن قيامها لا بد وأن يكون على نحو الإمتداد البنائي عليها مع المراجعات النقدية والتصحيح في غير تلك السماوية المسلم بها قطعًا، وكلما انتمى الإنسان إلى تاريخه الصحيح وواصل البناء عليه كلما تجذر في وجوده وكان له حضور في ما يسمى بصراع الحضارات، وكلما انفصل عنه متنصلًا أو مزيفًا أو متلاعبًا فإنه في الواقع يؤسس إلى حالة معقدة من الإنفصام في الشخصية تارة والإزدواجية تارة أخرى، وهذا في حقيقته نتاج الخلل في المحورين الأولين، وهو ما نعيشه اليوم على مستويي الفرد والمجتمع مع مكابرات صريحة وإنكار صارخ لواقع الحال مع وضوح الدلالات عليه بأدنى تدبر.
الثقلان المقدسان، الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.. ويكفي في بيان عظيم شأنهما قول الله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، وبذلك فإن التأصيل على ما هو خارج عنهما لا يمكن إلا أن يكون ضلالًا وضربًا في التيه، والفصل في قوله عز وجل (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)؛ فـ(كل) أداة عموم تفيد الاستغراق التام، ولا كلام بعدها.
السيد محمد علي العلوي
28 ربيع الثاني 1435 هجرية
28 فبراير 2014 ميلادية