عندما يُقطع جزءٌ من كل حَدَّ الانفاصل التام، فإنه يقال: لقد بان هذا الجزء عن ذاك.
فلا يمكن إنكار الانفصال بحال، ومن هنا جاء مصطلح (البينة) التي يُطالب بها المدعي (البينة على من ادعى)، ولا تسمى (بينة) حتى تحقق الفصل في القضية بوضوح لا يُنكر، وما لم يتحقق هذا المستوى من العلم، فالحال دائر بين الشك والاحتمال بدرجاته والظن بدرجاته، وقد نهى الله تعالى عن العمل بأحدها إلا إذا كانت في درجة من الاعتبار عند العقلاء.
إن لثقافة (البينة) أعظم الأثر في الحفاظ على سلامة المجتمع بالمحافظة على سلامة قلوب أبنائه واستقرار نفوسهم، فمسألة الانتهاء عن ممارسة التهمة بالبناء على الظنون وبنفخ القرائن الضعيفة والمتوهمة مسألة غاية في الأهمية وفيها دليل بارع على رقي المجتمع وتحضره، وعلى العكس فإنه إذا ما قام في ثقافته على التخلف عن (البينة) واعتماد تضخيم ما يتوهمه قرينة فإنه يفتح على نفسه أبواب جهنم في الدنيا قبل الآخرة؛ إذ أن من يستهين اتهام الآخرين دون بينة لن يتورع غيره عن اتهامه ومن دون بينة أيضًا، وبذلك يتحول المجتمع إلى ميدان للضباع المحتقرة من بني جنسها!
بالأمس كنت أستمع إلى استدلالات أحد الأخوة المؤمنين على حادثة ما، وقد هالني ما سمعت إلى درجة أنني توقفت عن الكلام برهة حتى استجمع قواي قبل التفكير في طريقة مناقشة ما يقال.. والأدهى اكتشافي أن هذا الاستدلال لم يكن منه، بل من مجموعة من طلبة العلوم الدينية ومعهم جماهير (ليست بالقليلة).. والمؤلم في الأمر أنهم قد انغلقوا بشكل غريب على ما هم عليه ما وهن، فضعفت استعداداتهم عن فهم أي إيراد عليهم.
إن للبينة بعد محوري جدًا، وهو نفي الاحتمالات، وإلا فهي ليست ببينة، ولذلك نجد الشارع المقدس متشددًا مع الشهود، فهو لا يقبل إلا بالثقات والعدول، وأن تكون شهاداتهم عن حس لا عن حدس، والكثير من الشروط الجادة..
يبدو أننا نعاني من فراغات فكرية كبيرة ظهرت في القفز على القيم والمعايير لصالح العبث على جبهات الصدام مع الآخر، وإن لم يوجد فمع الداخل، وإن فقد فمع الأخ، وإن لا فمع النفس!!
أصبحت مراعاتنا لأدنى مستويات التقوى ضعيفة في كثير من الأحيان، فصرنا نعشق الانغلاق على أفكارنا واتخاذ الآخر عدوًا، وهذه العداوات تحولت إلى ميزان تعرف به قوة الإنسان ومدى ثباته على (مبادئه)!!
نعم، فقد بات اتهام الآخرين ورميهم وسبهم وشتمهم مما يستدل به على المبدئية والثبات، واتعست الدائرة حتى صار الكذب والتدليس والغش في تسويق الكلام مهارة لا يتميز بها إلا الشطار (المسددين من الله تعالى)!! والأغرب أن الأخلاق جُعلت حاضنة لهذا اللون من السفه مما عقد المشكلة كثيرًا؛ فأنت ترى ذلك الرجل الهادئ صاحب الخلق الرفيع ومشية الهون وهو يوجه سهامه ملفوفة في حرير إلى صدور لم يكن لها من ذنب إلا أنها (اختلفت).
قال تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا)، ونرى بوضوح أن الأمر بالقول الحسن جاء لعموم الناس.. ثم أنه سبحانه قال (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، هذا وهو الطاغي المجرم، إلا أن الأمر جاء بأن قولا له قولًا (لينًا).
وهنا يأتي الخبر عن الخبر (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)، وأكثر من في الأرض وإن كانوا متفرقين في قلة هنا وأخرى هناك، فالإشارة إلى الإشتراك في مفهوم اتباع الظن.
وهنا أخرى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).. ثم غيرها غاية في الصراحة والخطورة (إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى)..
وأختمها بما أمر الله تعالى به المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).
ولا شك في أن هناك من يخاف الله بتمزيق مفاهيم القرآن وقلبها بقلبه المنكوس، ومثل هؤلاء لا يخافون الله أصلًا، وقد قال آباؤنا والأجداد (اللي ما يخاف الله.. خافه).
وخير خاتمة ما قاله الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): “من خاف الناس لسانه فهو من أهل النار”.
السيد محمد علي العلوي
26 جمادى الأولى 1435 هجرية
28 مارس 2014 ميلادية