في خطاب عالٍ، وبروح الرأفة والحب، يقول الله تعالى لرسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) مسليًا مطمئنًا:
(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)..
كم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألم ويعتصر لما عليه القوم من الغي والإعراض عن الحق، حتى أنه كان يلوم نفسه ويتهمها بالتقصير مبينًا لنا أهمية البذل والتضحية والعطاء على طريق الهداية والدعوة والتبليغ تحت عنوان الرسالية الصادقة، كما وأننا نفهم من جملة هذه الحالة الشريفة إصرار الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على استنقاذ النور الكامن في النفس البشرية وبسطه ليسمو بها نحو الإنسانية وكمالاتها كما يحب الله تعالى ويرضى، ونفهم أيضًا إشعاع الحب للإنسان، ذلك الحب الذي يتدفق من الروح الرسالية لنبي الرحمة (صلى الله عليه وآله).. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ..
لذلك، فإن الإنسان يتألم ويشعر بغصات تعتصر قلبه، عندما يرى حضورًا لمجموعة من الأمراض النفسية تتحكم في بعض المؤمنين وتجرهم إلى مستنقعات التوحد وأوحال الانعزال ووصمات التميز بالسيء، ومن هذه الأمراض مرض استعداء الآخرين دون مبرر يتعقله الإنسان السوي، والاستعداء الذي أعنيه هو ذاك الذي يحتمل مستويات عدة، فمرة يكون بخلق عدو صريح تُتوقع معه مواجهات وربما اقتتال، ومرة يكون بخلق خطوط فاصلة أمام الآخر، ومرة بالمقاطعة والإعراض، ومرة ومرة ومرة كلها ترجع إلى منشأ واحد جامع عنوان (أنا والآخر)، وفيه تدخل عناوين رأسها الحسد وقلبها الغيرة ورئتاها عقدة الحقارة والنقص..
متى يعيش الإنسان الفرح والسرور والسعادة للآخر عندما ينجز إنجازًا صغيرًا أو عظيمًا؟
إنه كذلك عندما يعيش الإنسانية ويرى القبيح منه إساءة لها، والحسن من الآخر حسن لها، وبالتالي فهو يدفع نفسه والآخرين لفعل الخير وإشاعة الحب وتقوية الارتباطات بمخلوقات الله تعالى، وبالتلازم فهو يبعد نفسه والآخرين عن كل ما ينقض إشاعة الخير والحب والصلاح..
فلندقق جيدًا..
فلانٌ لا أتفق معه.. نختلف جدًا، فإن لم يعلن أحدنا عداوته للآخر كان ذلك مقدمة قوية للانطلاق في البحث عن المشتركات للعمل عليها ومن خلالها، وأما في جانب ما لا نتفق عليه فالحاكم عموم (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)..
لا أفهم محل الصعوبة في هذه المعادلة!! لا أفهم هذا الضيق النفسي وحبس النفس في زوايا حادة مصطنعة لن تؤدي إلى غير ذبول النفس ثم موتها، والقضية حينها سوف تتحول بكاملها نحو عالم آخر هو عالم الحساب والكتاب؛ إذ أن الوصول في الحال مع الآخر إلى اصطناع ما يدعو إلى القطيعة والصد والضرب والتسقيط إنما هو فجور بلا كلام، والله تعالى يقول (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، أما التزكية وهي النماء والازدهار فرهين الحب وطيب السجايا والانفتاح على الإنسانية والرفق بالآخرين والتماس الأعذار للمؤمنين تقربًا وطلبًا لمرضاة الله تعالى، وأما دس النفس فهو ضيقها وحبسها في زوايا (الأنا والآخر) والاستعداء وخلق الجبهات والميل إلى التقاتل والتذابح والشحناء والقطيعة وما يأتي في قائمة مثل هذه العناوين..
وختامًا..
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)..
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): “يا بني اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك، واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب”
ولنحذر كل الحذر من أن نسمي ظلمنا لأنفسنا أو لغيرنا بغير اسمه، فالظلم ظلم وإن ألبسناه زاهي الكلمات..
السيد محمد علي العلوي
23 ربيع الثاني 1435 هجرية
23 فبراير 2014 م