في كل مرة، أيام تمضي بلياليها المزدحمة ببرامج الختمات القرآنية والمحاضرات الدينية والأدعية والزيارات، والتواصل مع الأرحام والأصدقاء كمظهر واضح يشكل إطاراً رمضانياً عاماً للمؤمنين والمؤمنات، وفي داخل بعض البيوت تزدهر صور من الإحياءات كصلاة الليل والمناجاة في الأسحار وتلاوة القرآن الكريم والتضرع إلى الباري سبحانه وتعالى.
وفي الثلث الأخير من الشهر يترقب المسلمون تلك الليلة التي جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر، فخصها بفتح أبواب الرحمة والمغفرة واستجابة الدعاء وقضاء الحوائج..
إنها أجواء إيمانية يتميز بها شهر رمضان الكريم عن سائر شهور السنة، فقد قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابة…”.
ونحن في كل سنة نستقبل هذا الشهر ببرامج الإحياء المعتادة وكلنا أمل ورجاء أن يغفر الله تعالى ذنوبناً ويصفح عن سيئاتنا ويطهر قلوبنا..
ولكن..
متى ينبغي لنا ترقب النتائج؟ متى تظهر ثمار برامجنا الرمضانية المعتادة؟ هل القضية قضية شهر رمضان وحسب؟
في كل عام يغادرنا شهر رمضان ويفسح المجال لعيده حتى نلبس الجديد ونوزع الهدايا و(نأكل غدا العيد).. ولكن في هذه المرة.. هيهات هيهات أن نتركك يا شهر الخير تمضي لتدور ثانية والحال هو الحال بلا أدنى تغير يلحظ.. في هذه المرة نحن نتشبث بجوهرك ولن ندعك تفارقنا ما حيينا، فالقرار –إن شاء الله تعالى- أن تكون كل أيامنا أياماً رمضانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأننا فهمنا ووعينا إلى أنك إنما جئت برجاء أن تزرع فينا روح التقوى، وهذا هو ما قاله رب العزة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فإذا لم تكن التقوى في نفوسنا نتيجة لأيامك ولياليك فلا يبعد أن نكون مثل ذاك الذي (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى).
في هذه المرة نحن نملك الإصرار الكامل بأن نترجمك يا شهر الله الكريم فكراً وسلوكاً في حياتنا، فما حملته لنا من معارف ومفاهيم شامخة لن نتركها حتى نتحد معها روحاً لا صورة فقط، فقد مللنا الذنوب وسئمنا المعاصي وتعبنا من مخالفة الفطرة السوية التي فطرنا الله تعالى عليها، ولذلك فإن ليلة عند الناس هي ليلة الأول من شوال قررنا بعون من الله العلي القدير أن تكون عندنا ليلة الانطلاق الحقيقي نحو إحياء أمر شهر رمضان في كل مفاصل حياتنا، والأمر ليس بالصعب إذا ما سعينا إلى أن نذوب في كتاب الله تعالى ونمتزج بسنة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) حتى نفهم قول الحق تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
إنه هكذا:
قرآن إذا تحركنا في فكرنا من خلاله ففيه الهدى أولاً، وتمام البيان ثانياً، وهداية إلى التمييز بين الهدى والضلال ثالثاً، فقضية شهر رمضان الكريم قضية تمسك بالقرآن الكريم وتحويله إلى منهج حياة تام كامل.
لذا، فإننا في مثل هذه الساعات التي نستقبل معها شمس شوال من المفترض أن نكون فيها على أهبة الاستعداد لاستقبال الروح القرآنية لشهر لم نودعه إلا زماناً وإلا فهو فينا روحاً وحيوية وعنفواناً، هو فينا بما أنزل فيه من نور، وهو فينا بمن بلغه إلينا برساليته الخالدة، وهو فينا بروح الرسالة المزروعة بأيدي الأطهار من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)..
ومن أجل كل ذلك فإننا اليوم نستقبل سنة جديدة بتقوى رمضانية نرسم بقلمها النوري خريطة عمل رسالي نسأل الله عز وجل أن يكون مقبولاً عنده، فعهداً يا الله على أن نواصل الطريق دون ملل ولا كلل، ولن نلتفت إلى ما يلقيه الشيطان هنا وهناك؛ فنحن على ثقة تامة بأن من كان مع الله كان الله معه، و(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وغايتنا يا رباه أن نعيد للحياة روح سلمان وأبي ذر وعمار ومالك، وسمية والرباب وفضة وأم وهب، وهذا ممكن جداً مادام القرآن بين أيدينا وسيرة اهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) تحت نواظرنا.. وكربلاء الحسين (عليه الصلاة والسلام) في قلوبنا.
من هنا ننطلق، ومن هنا نبقى في عنفوان وإباء حتى تقر عيوننا برؤية تلك الراية المقدسة الشريفة ترفرف قدام قائدنا المظفر صاحب الأمر المهدي المنتظر (أرواحنا فداه)..
لن تغادر هذه المرة يا شهر رمضان إلا ونحن بين جناحيك ننشر في الدنيا أريج رسالتك ونزرع في كل أرض رياحين جنتك، فاهلاً وسهلاً برحلة الخير.. كل الخير، ويا مرحباً بطريق التقى.. أحلى تقى..
السيد محمد علي العلوي
29 رمضان 1431 هـ
9 سبتمبر 2010 م