تلعب الخلفيات الثقافية والتراكمات السلوكية دوراً بارزاً في حياة ذاك الذي لا يجيد فن التحرر من سيئها، فشخصية الإنسان عبارة عن مخلوط الأحداث التي مر بها منذ نشأته الأولى بالقرب من صدر والدته وحتى قيامه شخصاً واضح المعالم بين الناس، ولا شك في أن للأحداث جوانب سلبية وأخرى إيجابية، فمنها الصاقل التنموي، ومنها المدمر التشويهي، أما مهمة الإنسان في خلال هذا المشوار فهي التخلص من السلبيات والمدمرات والتشوهات، والعمل الدائم على جعل الإيجابيات الصاقلة مصدر إنعكاس خير في تعاطياته الحياتية من ألفها إلى يائها، وفي حال عدم التفاته إلى هذه المهمة المحورية فإن تعاطيه مع ما يواجهه من أحداث وحوادث سيكون مُرْتَكِزاً على تلك الخلفيات والتراكمات غير المهذبة .. وتبدأ المشاكل والأزمات …
إن الأثر الأهم لهذه الحالة نلحظه بكل وضوح في ضعف التمييز والفرز عند الإنسان المُثقل بالمتضادات والمتعكاسات السلوكية والفكرية فلا تراه يعطي مواضيع الحياة حجمها الطبيعي، ولكنه يهمل المهم وينفخ في التافه والسخيف حتى يجعل منه بالونة هوائية كبيرة تُحدِث إزعاجاً وفوضى عند انفجارها، فهو في أغلب الأحيان لا يفهم بُعْدَاً غيرَ التكسير أو التصعيد، وليس هذا إلا لتشوهات ثقافية وفكرية يعيشها ولا يقوى على الخلاص منها.
قال تعالى (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)، والحكمة هي البعد الثالث الذي ينتظر الاستنهاض من بين بُعدي النفخ والتسخيف، فهي وضع الشيء في موضعه، وهذا ليس من الصور والشكليات، بل هو من المواد والسلوكيات، فلا يظن أحدٌ أن الحكمة سلعة تباع في أسواق الكلام والخطابات، لأنها وبكل بساطة ممارسة لا يستقيم أمرها إلا بالدخول في مواجهة مباشرة مع النفس المتقولبة في قالب الأنا والذات.
إن الاهتمام بالبُعْدِ الثالث في معالجاتنا للقضايا والمشاكل التي تواجهنا تعني التعامل الموضوعي معها دون النظر إلى الزوائد والتكلفات، فالمشكلة كبرت أو صغرت فإنها تبقى متقومة بأطرافها الموضوعية التي ما إن نسخفها أو نتكلف عليها حتى تتضخم في اتجاهات مختلفة فتفرز –حتماً وجزماً- مشاكل أخرى أشد خطورة، فلنأخذ مثلاً طالب مدرسة جاء إلى والديه بنتائج غير مرضية:
- النتائج غير مرضية و (الطالب يعلم بذلك جيداً). فالتأنيب على هذا بخصوص تدني الدرجات تضخيم غير محمود.
- ليست النتائج إلا أثر ومظهر لمؤثرات سابقة. فينبغي دراسة المؤثرات وأسبابها قبل تأنيب الطالب.
- في ضمن الأجواء والظروف القائمة، ماهو المتوقع من الطالب؟
إن كان في الإمكان معالجة الحالة والانتقال بالطالب إلى مرحلة تحصيلية أفضل فهو المطلوب، وإلا فلم التضخيم إذا كان القائم قائماً لا يغير أو أن تغييره مرجوح؟
فليكن لهذا البُعد التحليلي المكان الأبرز في تعاطينا مع مختلف القضايا والأمور، وليكن التحرر من موروثاتنا الفكرية والسلوكية، بل وحتى العِرقية.
السيد محمد علي العلوي
14 محرم 1431هـ
31 ديسمبر 2009